أخبار اسلامية

نقد نظرية التطور – الحلقة 1 – دليل التنوع الأحيائي والأبعاد الدينية والاخلاقية لنظرية التطور ومستواها العلمي : السيد محمد باقر السيستاني

نقد نظرية التطور – الحلقة 1 – دليل التنوع الأحيائي والأبعاد الدينية والاخلاقية لنظرية التطور ومستواها العلمي : السيد محمد باقر السيستاني

نقد نظرية التطور – الحلقة 1 –

دليل التنوع الأحيائي والأبعاد الدينية والاخلاقية لنظرية التطور ومستواها العلمي : السيد محمد باقر السيستاني

(واحة) وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف

لتنوّع الأحيائيّ في الكائنات الحيّة، والاحتجاج به :

يمثّل التنوّع الأحيائيّ حجّة على وجود الخالق ،وللاحتجاج بهذا التنوّع تقريران:
التقرير الأول : ينظر إلى إيداع مبادئ هذا التطوّر في المادّة باتّصافها بخصائص تكون قابلة معها للاتّصاف بالحياة، ثمّ في نمط الحياة التي وُجدت فيها.
ومبنى هذا التقرير: أنّ مطلق تطوّرات المادّة وتشكّلاتها تمثّل استعدادات وقابليّات كامنة فيها بحسب تكوينها، بحيث لو كان هذا التكوين على وجه آخر لم تصلح معه لطروّ تلك التنوّعات والأشكال عليها.
فالمادّة ليست حالة بسيطة على ما يُتراءى في بادئ النظر للإنسان ؛ بل هي حالة معقّدة وبديعة كما يتمثّل ذلك طوراً من خلال مكوّناتها وتركيبها علىالوجه الذي تبيّن في علمَي الكيمياء والفيزياء في العصر الحديث، وطوراً من خلال ما يتمثّل من قابليّاتها في تبلوراتها وتطوّراتها، مثل: حملها للحياة النباتيّة والحيوانيّة بتنوّعاتها.
خارطة تبين اهم 35 نقطة للتنوع البيولوجي على الارض
خارطة تبين اهم 35 نقطة للتنوع البيولوجي على الارض
وعليه: يكون في وجود المادّة بهذا التعقيد والنظم دلالة على وجود الخالق كوجه من وجوه حجّة النظم على وجود الخالق .
التقرير الثاني : يبتني على ضرورة إيجاد هذا التنوّع بنحوٍ مباشر من قبل الخالق بناءً على أنّه فعل خارق ليس له أيّ عامل طبيعيّ محتمَل.. وعليه: يكون وجود كلّ نوع من الحيوانات والنباتات حجّة مباشرة على وجود الخالق.
ويقع في مقابل هذا التقرير نظريّة التطوّر الأحيائيّ، حيث أنّها تفسّر هذا التنوّع على أسس طبيعيّة..
وعليه: لا يكون وجود كلّ نوع حيّ من أنواع النباتات والحيوانات حالة خارقة لابدّ من إسنادها إلى فاعل غير مادّيّ؛ بل تكون الحياة بعد ابتدائها في خليّة واحدة أو عدّة خلايا قد تطوّرت تدريجيّاً بفعل العوامل الطبيعيّة المختلفة وأدّت إلى كلّ هذا التنوّع الأحيائيّ والنباتيّ والحيوانيّ.
ومنهج البحث حول التطوّر الأحيائيّ يتألّف من مقدّمة وأبحاث ثلاثة :
أمّا المدخل : فهو يشتمل على مقدّمات:
1- أبعاد النظريّة الدينيّة والأخلاقيّة.
2- الخلاف حول النظريّة ومستوى ثبوتها.
3- توضيح النظريّة وأجزائها وتطوّرها.
4- بيان نوع التطوّر المنظور فيها وهو- التطوّر الكبير - وهو يشتمل على بيان انقسام التطوّر إلى صغير وكبير.
والبحث الأوّل: في مدى تماسك النظريّة عقلاً في حدّ نفسها، ويشتمل على مدى إمكانيّة إنتاج الطفرة العشوائيّة لحالات معقّدة وكفاية مدّة الحياة في الأرض لوقوع الطفرات المطلوبة وصعوبة ولادة الجوانب النفسيّة والإدراكيّة من التغييرات الكيميائيّة والفيزيائيّة.
والبحث الثاني : في مدى قيام الدليل المباشر على هذه النظريّة أو عدمها، والمراد بالدليل المباشر ملاحظة وقوع التطوّر في حالات مشهودة بالملاحظة أو التجربة أو عدم وقوعه في مظانّه.
وسوف نتحدّث فيه عن مدى إمكانيّة التطوّر النوعيّ الكبير على أساس الحالات المشهودة التي هي من قبيل التطوّر الصغير.
والبحث الثالث: في الشواهد غير المباشرة على هذه النظريّة وعلى خلافها ،ويتضمّن ذكر الحالات التي فُسّرت بهذه النظريّة، مثل: التشابه الجينيّ، واختصاص مجموعة من الكائنات المتشابهة برقعة جغرافيّة معزولة، وغير ذلك .
وينبغي أن يتثبّت الناظر في الموضوع قبل البتّ بالاستنتاج بنفيٍ أو إثباتٍ حتّى إنّهاء البحث والتأمّل الجامع منه في مضامينه.
مدخل البحث : أبعاد هذه النظريّة الثلاثة: الألوهيّة والدينيّة والأخلاقيّة :
أمّا مدخل البحث فهو يشتمل كما ذكرنا على مقدّمات:
المقدّمة الأولى: في ذكر أبعاد هذه النظريّة: ولهذه النظريّة أبعاد ثلاثة:
البعد الأوّل : البعد الألوهيّ : وهو دور نظريّة خلق التنوّع الأحيائيّ في إثبات الخالق، وهذا الدور مهمّ لكنّه ليس ضروريّاً؛ لأنّ أدلّة وجود الخالق لا تنحصر بالتنوّع الأحيائيّ، ففي أصل الكون وكذا في ظاهرة الحياة- وفق أرجح النظريّتيّن في نشأتها - وفي نظم الكون والكائنات الحيّة وغيرها أيضاً دلالة واضحة على وجود الخالق، كما أنّ في التنوّع الأحيائيّ نفسه تمثيلاً لإبداع الخالق وصنعه بالتقرير الأوّل المتقدّم، فالكون كلّه والحياة كلّها مشهد لعظمة الله وصنعته إن كان بنحوٍ مباشر أو من خلال سنن سنّها وقوانيّ قنّنها.
البعد الثاني : البعد الدينيّ : ونعني به: مدى انسجام هذه النظريّة مع ما جاء في الدين.
والواقع: أنه لا منافاة لأصل نظريّة نشأة التنوّع الأحيائيّ وفق السنن الطبيعيّة مع أصول الدين وقواعده العامّة؛ لأنّ الدين لا يتضمّن إسناد الكائنات إلى الله سبحانه على نحوٍ ينفي دخالة السنن الطبيعيّة في وجودها وإن ظنّ ذلك بعض أهل الدين بحسب معلوماتهم ؛ بل تُعتبر تلك السنن أكثر دلالةً على قدرة الخالق في كيفيّة تنمية شيء حتّى يتطوّر إلى شيء مختلف عنه، فهو{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } (1) و { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْد موتها} (2) ، كما أنّ خلق الكائنات من خلال القوانيّن والسنن التي طُبعت عليها لا ينافي عنايته في خلقها وفق المنظور الدينيّ؛ وذلك:
أولا : أنّ بقاء الأشياء واتّجاهها - بحسب الدين - كلّه بمددٍ دائم من الله سبحانه، فلا استقلال لها في وجودها؛ بل هي بحاجة إلى فيضه وإمداده دائماً .
وثانيا : أنّ عناية الله سبحانه بشيء ليست على حدّ عناية الإنسان في اقتضائها الاقتران بالمعنى به أو القرب منه؛ لأنّ قيمة الزمن في المنظور الإلهيّ غير قيمته في المنظور الإنسانيّ الذي يعيش لفترة محدودة، وقد جاء في القرآن الكريم: { وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مما تَعُدُّون} (3) ومن ثَمّ تكون من عناية الله سبحانه بخلق الكائنات أن يخلق الأشياء من أوّل تكوينها بما يودع فيها من وجوه القابليّات والاستعدادات بما يمهّد لسوقها إلى مسار معيّن ونتاج منظور؛ ومن ثَمّ جاء في القرآن الكريم أنّه تعالى خلق السماوات والأرض تدريجاً وخلق كلّ الكائنات الحيّة وغيرها من مادّة سابقة وجعل من الماء كلّ شيء حيّ وبدأ خلق الإنسان من طين .
وإنّما نقطة المنافاة بين هذه النظريّة وما جاء في الدين أنّ الدين {وفق الفهم السائد عند أهل العلم به } يتضمّن خلق الإنسان من قِبَل الله سبحانه مباشرةً وبعناية خاصّة، بينما لازم هذه النظريّة أن يكون الإنسان قد وُجد بالتطوّرعن الحيوانات.
علماً أنّ نظريّة الخلق المباشر للإنسان يُعدّ بحسب الفهم المذكور من أصول المضامين الدينيّة الواردة في الكتب المقدّسة في الأديان الإبراهيميّة كلّها وليس ممَّا ورد في نصٍّ مفرد في بعضها نظير ما ورد في التوراة من خلق السماء والأرض في بضعة آلاف سنة حتّى يحتمل كونه تفصيلاً وشرحاً أُضيف من قِبَل رجال الدين في العصور الأولى.
وهناك بين أهل الدين مَن ذهب إلى أنّ النصوص الدينيّة لا تقتضي خلق الله سبحانه للإنسان مباشرةً من الطين ؛ بل هي تحتمل بشيء من التأويل الذي تتقبّله النصوص الدينيّة - لاسيّما في حديثها عن العوالم والمواضيع الغامضة - أن يكون المراد بها خلقه للإنسان من خلال أسباب طبيعيّة كما هو حال صنائعه من الكائنات غير الحيّة في هذا العالم الطبيعيّ .
نعم، لا شكّ في دلالتها على عنايته تعالى بخلق الإنسان، وهو لا ينافي البناء على نشأة الإنسان من خلال نظريّة التطوّر؛ لأنّ التطوّر سنّة من سنن الله تعالى في الحياة.
نظرية التطوير او التصميم الذكي :
وذهب آخرون من أهل الدين إلى أنّ الله سبحانه قد خلق الكائنات الحيّة فعلاً؛ ولكنّه من خلال آليّة الطفرة الجينيّة في الكائنات الحيّة، فالطفرة المولّدة للتطوّر ليست حالة طبيعيّة طرأت فيها على أساس عوامل مادّيّة اتّفاقيّة؛ بل كانت موجَّهة من قِبَل الله سبحانه، كما قد يُقال بمثله في خلقه سبحانه لعيسى (ع) من أمّه مريم الطاهرة (ع)، ومِمَّا يحتجّ به هؤلاء أنّ مدّة نشأة الحياة في الأرض لا تكفي لنشأة الكائنات الحيّة من خلال الطفرة الجينيّة، وتُسمّى هذه النظريّة بنظريّة المصمّم الذكيّ أو بنظريّة التطوير.
مايكل بيهي رائد حجة التعقيد غير القابل للاختزال
وهو اول من استخدم مصطلح التصميم الذكي
وهو في حقيقته اعادة صياغة للدليل الغائي
بطريقة علمية
وقد يحتمل بعض أهل الدين تماميّة نظريّة التطوّر في حقّ غير الإنسان من الكائنات الحيّة، من جهة عدم الدليل الدينيّ النافي لها في شأن غير الإنسان.
وينطلق بعض هذه الآراء من أنّ ثقل الدين في مجموع شواهده الفطريّة وأدلّته التاريُيّة هو بدرجة كبيرة لا يصحّ منطقيّاً رفع اليد عنه بحالٍ؛ بل يتعيّن تأويل نصوصه التي تعطي معانٍ لا يصحّ بحسب المعطيات الموثوقة البناء عليها .
البعد الثالث : البعد الأخلاقيّ والقانونيّ  والاجتماعيّ: لقد كانت لهذه النظريّة آثار أخلاقيّة في أوساط علماء الطبيعة وفلاسفة الغرب بما ينعكس بطبيعة الحال فيما يتفرّع على الأخلاق في مجال القانون والاجتماع والسياسة:
فقد رتّب جماعة من القائلين بهذه النظريّة - رتبوا - عليها وهن نظريّة الأخلاق الفاضلة والنبيلة في شأن حقيقة الأخلاق الإنسانيّة واعتقدوا أنّها تقوّي نظريّة حاكميّة الغرائز والمصالح الأنانيّة على السلوك الإنسانيّ.
وذلك (أولا) : بالنظر إلى الجزء الأوّل من هذه النظريّة، وهو: أصل الإنسان، فإنّ هذا الجزء يقتضي أنّ الإنسان من نسل الحيوانات التي هي بدورها إفراز مادّيّ للطبيعة، وقد كان الأب الأقرب إليه حيوان مشترك بينه وبيّ القرد - والذي هو بطبيعة الحال أقرب إلى القرد - واستعدادات الإنسان وصفاته ليست إلّا صفات متطوّرة لتكيّفه مع البيئة وحفاظه على نفسه وعلى نوعه.
في عام 2008 تم انتاج الفيلم الوثائقي
(مطرودون ، غير مسموح بالذكاء) الذي
تكلم عن القمع الذي تعرض له العلماء
للتخلي عن فكرة التصميم الذكي وربط الفيلم
بين النازية (الفاشية) وبين نظرية التطور .
وحظي هذا الفيلم باقبال منقطع النظير
وعليه: فإنّ أخلاقيّات الإنسان ليست إلّا أدوات لجلب المنافع والمصالح المادّيّة ولكن بشكل أكثر تطوّراً، ومن البعيد حينئذٍ أن يُدّعى أنّ أخلاق الإنسان ذات أبعاد روحيّة ومعنويّة وتضحويّة ومؤشّرة على معانٍ مثاليّة وسامية؛ بل ذلك أشبه بالتخيّلات الأدبيّة من الإنسان؛ إذ المادّة الطبيعيّة لا تفرز بتغييرات فيزيائيّة بحتة شيئاً مختلفاً عنها ومبايناً معها، كما أنّ السبب الموجب للتطوّر وهو التكيّف مع البيئة استجابةً لضغوطها لن يؤدّي إلى وجود قيم لا علاقة لها بالتكيّف المفترض، ولا يمكن أن تكون استجابةً لها.
و(ثانيا) بالنظر إلى الجزء الثاني من النظريّة وهو الانتخاب الطبيعيّ ، وذلك أنّ القانون الصحيح للحياة هو السنن التاريخيَّة التي تجري الحياة عليها، وإذا كانت سنّة الحياة على الانتخاب الطبيعيّ وبقاء من يكون أقوى وأقدر على تسخير الطبيعة والتكيّف مع الحياة فإنّ السلوك المنطقيّ الصحيح للإنسان هو مكافحة الإنسان للبقاء بأيّة وسيلة يتمكّن منها ولو اقتضى ذلك إزالة الآخرين من أفراد وقوميّات وشعوب وكائنات أخرى ليكون الغالب على الطبيعة والوارث لها.
وقد قيل إنّ سلوكيّات دمويّة كثيرة في أوروبّا، والاتحاد السوفيتيّ ،والمستعمرات الأوروبّيّة، ومن جملتها سلوك النازيين في الحرب العالميّة الأولى كانت متأثّرةً بهذه النظريّة في بُعدها الاجتماعيّ.
هذا، وقد اعتبر جمع ممن أنكر هذه النظريّة تأثيرها السلبيّ على الأخلاق شاهداً على تضعيفها، لأنّ قيمة السلوك النبيل للإنسان بديهة وجدانيّة لعامّة العقلاء، وجميع قيم العالم المتحضّر المعاصر تُبنى على هذا الأصل المهمّ، فلا معنى لإنكارها.
هذا، ولكن جماعة آخرون من القائلين بنظريّة التطوّر لم يقبلوا بهذه النظرة إلى الأخلاق والاجتماع تفريعاً عليها وقالوا إنّ هذه النظريّة لا تفنّد القبول بالأخلاق الفاضلة والنبيلة ولا تدعو إلى الغرائزيّة والأنانيّة، فهذه تفريعات غير صحيحة عليها؛ لأنّ هذه النظريّة ناظرة إلى تفسير النشأة الطبيعيّة للإنسان، وهي
لا تحدد بالضّرورة اللياقات الأخلاقيّة للإنسان، فلا مانع من الإذعان بأنّ الأخلاق الفاضلة هي السلوك اللائق بالإنسان أيّاً كانت نشأته، كما أنّ السير الطبيعيّ للحياة لا يستبطن بالضّرورة الاتجاه الصحيح فيها للإنسان فإنّ اتّجاه الإنسان لا يتحدّد بقوانين الطبيعة كما زعمت الماركسيّة في المجال الاقتصاديّ ؛ بل بالقيم المزروعة في باطن الإنسان وضميره الرائع.
ويزداد ذلك وضوحاً إذا اعترف المرء بوجود الخالق وتقبّل أصل الدين وتنبؤاته عن بقاء الإنسان مرهوناً بأعماله بعد هذه الحياة وإن كان الخالق قد أراد وجود الإنسان وفق مسيرة طبيعيّة للكون والحياة.
ويمكن القول: إنّ البناء على هذه النظريّة في نشأة الإنسان لا تشجّع الأخلاق النبيلة في الإنسان؛ بل قد تستتبع إيحاءات مثبّطة على البعد الروحيّ والمعنويّ في الإنسان من جهة النشأة المفترضة له عن الحيوانات.
لكن يقع الكلام في أنّه هل يبلغ ذلك إلى حدّ المواجهة مع مقتضيات الوجدان والضمير الإنسانيّ أو لا، فإن كان يبلغ هذا المستوى حقّاً كان الأخذ بالقضاء الوجدانيّ هو الموقف السليم بطبيعة الحال وفق الرؤية العقلانيّة التي عليها جمهور الناس من اعتبار القيم النبيلة من جملة الثوابت التي لا يصحّ للإنسان الراشد رفع اليد عنها.
الخلاف حول النظريّة ومستواها العلميّ :
المقدّمة الثانية : للبحث عن نظريّة التطوّر في ذكر الخلاف حولها وفي مستواها العلميّ.
إنّ هناك خلافات ثلاثة حول هذه النظريّة:
في عام 1842 كتب تشارلز داروين اول
مسودة لكتابه اصل الأنواع
الخلاف الأوّل : في أصل ثبوتها، حيث أنّ فيه قولان:
القول الأوّل : ترجيح هذه النظريّة والاقتناع بها وهو الموقف الأشهر بين علماء الطبيعة وفلاسفة الغرب، وهؤلاء فيهم من لا يؤمن بالإله وبالدين أصلاً، كما أنّ فيهم من يؤمن بالإله فحسب ولا يؤمن بالدين، ومنهم من يؤمن بالدين أيضاً، ويرى أنّ ما جاء في التراث الدينيّ من خلق الإنسان أمر متشابه يحتمل التأويل، وليس في عدم القبول به ما يوجب رفض الدين بالنظر إلى ثقل مجموع أدلّة الدين.
القول الثاني : عدم ثبوتها، وهو موقف جمع كثير من العلماء ولاسيّما في الولايات المتّحدة ، وهؤلاء منهم مَن كان عدم اقتناعه بها مبنيّاً على أساس إيمانيّ من جهة الاعتقاد بأنّ الدين ينفي هذه النظريّة لما تقدّم، كما أنّ هناك مَن استبعد هذه النظريّة على أساس علميّ بالنظر إلى أنّ علم الجينات إلى الآن لم يصل إلى تّجويز وقوع طفرات جينيّة بحجم يوجب تنوّع الكائنات، أو على أساس تاريخيّ من جهة عدم وفاء المؤشّرات التاريخيّة على وجود كائنات متسلسلة ومتدرّجة بالمقدار الكافي، أو على أساس فلسفيّ من جهة استبعاد نشأة ظاهرة العلم والوعي والاختيار من المادّة ونشاطها الفيزيائيّ البحت.
الخلاف في أنّ التطوّر نظريّة أو حقيقة :
الخلاف الثاني : خلاف وقع بيّ المرجّحين لهذه النظريّة في تقييم مستواها؛ فهل هي لم تزل نظريّة ذات شواهد أم هي حقيقة علميّة ثابتة لا يرقى إليها الشكّ . ومن الفرق بين الوجهين أنّ النظريّة يمكن أن تكون خاطئة في المنظور العلميّ وتكون الشواهد المفترضة عليها في حقيقتها ذات تفسير آخر، وإن تراءى منها وفق المعرفة المتاحة كونها من ملامح تلك النظريّة؛ بل كانت ذا قدرة تفسيريّة مناسبة لها، نظير ما قيل من أنّ نظريّة نيوتن في الجاذبيّة لم تزل تفسّر معظم الظواهر رغم العدول عنها بنظريّة آينشتاين بعدها.
والشائع في كلمات العلماء المتخصّصين التعبير عن التطوّر والانتخاب الطبيعيّ بالنظريّة، ولكن مال بعض الباحثين الذين تطرّقوا لها أو تصدّوا لشرحها إلى أنّ التعبير عنها بالنظريّة إنّما هي بالمعنى العامّ وليس بالمعنى الخاصّ المقابل للحقيقة كي يعني أنّها لم تبلغ درجة الحقيقة، ومن الباحثين(4) من فصّل في شأنها فقال إنّها في المرحلة الأولى التي أبداها داروين كانت نظريّة ذات شواهد فحسب؛ ولكنّها في المرحلة الثانية أصبحت حقيقة لكثرة الشواهد عليها في مقابل النظريّة البديلة وهي نظريّة الخلق.
لكنّه(5) أكّد على أنّه لا يعني بالحقيقة ما لن يدحض أبداً؛ لأنّ كلّ الحقائق العلميّة هي مؤقّتة خاضعة للتعديل في ضوء الأدلّة الجديدة، ومن الممكن أن يظهر معطى جديد أنّ التطوّر خطأ.
والواقع: أنّ الأمر في ذلك يتفرّع بعض الشيء على مدى اعتماد القول بهذه النظريّة على استبعاد نظريّة الخلق أو لا.
وذلك: أنّ الذي يظهر من كلام جماعة مِمّن رجّح أنّها حقيقة أنّ هذا الترجيح يستمدّ جانباً من زخمه من استبعادٍ مطلقٍ لنظريّة الخلق، فكأنّ هذا الاستبعاد متمّم للشواهد المذكورة عليها.
كما يقول أحدهم مثلاً في معرض حديثه عن استبعاد نشأة السمات المعقّدة والتغييرات الكبيرة عن التطوّر وفق آليّة الانتخاب الطبيعيّ: "لكن أوّلاً يجب أن نسأل: ما هي النظريّة البديلة؟ إنّنا لا نعلم أيّ عمليّة طبيعيّة أخرى يمكنها بناء تكيّف معقّد، أكثر من البدائل المقترحة شيوعاً يأخذنا إلى مجال فوق الطبيعة. هذا بالتأكيد هو مذهب الخلقيّة، المعروف في تجسّدده الأخير ب)التصميم الذكيّ(، يقترح مؤيدوا التصميم الذكيّ أن مصمّماً فوق طبيعيّ قد تدخّل في أوقات كثيرة خلال تاريخ الحياة، سواء بجلب التكيّفات المعقّدة إلى الوجود لحظيّاً التي لا يستطيع الانتخاب الطبيعيّ زعماً صنعها، أو إنتاج )طفرات معجزيّة( لا يمكن أن تحدث بالصدفة. بشكلٍ رئيسّ : فإنّ التصميم الذكيّ فرضيّة غير عمليّة؛ لأنّها تَحتوي على نطاق واسع على ادّعاءات غير قابلة للاختبار. فكيف كمثالٍ يمكننا تحديد ما إذا كانت الطفرات حوادث بحتة في نسخ الحمض النوويّ أو أُريدَ أن تأتي إلى الوجود من قبل خالق؟ لكنّنا نستطيع الاستمرار في السؤال ما إذا كانت هناك تكيّفات لا يمكن أن تكون قد بُنيت بالانتخاب، مِمَّا يتطلّب حينئذٍ التفكير في آلية أخرى " (6)
ويُلاحَظ: أنّ ما ذُكر في وجه هذا الاستبعاد لنظريّة الخلق من عدم صلوحها للاختبار ليس واضحاً؛ لأنّ حقّانيّة الفكرة ليست مرهونة بخضوعها للتجربة والاختبار، وإنّما التجربة هي أحد السبل الموضوعيّة للتحقّق حول الشيء، والسبيل الآخر لها مبادئ عقليّة بديهيّة كالتي تبتني عليها دلالة الكون ونظمه على وجود خالق عاقل مدبّر، وسوف يأتي زيادة إيضاح لهذا المعنى لاحقاً عند ذكر شواهد نظريّة التطوّر وحججها، حيث يُعَدّ هذا الاستبعاد من جملتها.
ولكنّ الشاهد في ذكر هذا الكلام فعلاً ابتناء البتّ بالنظريّة على استبعاد نظريّة الخلق.
وفي هذه الحالة: فإنّ من الطبيعيّ أن يختلف وصف النظريّة باختلاف المصادرات المسبقة المفترضة في شأن وجود خالق للكون أو لا؟ على وجوه أربعة :
1- فهناك من ينظر إلى الموضوع بعد افتراض وجود خالق عاقل ومدبّر وذكيّ للكون والحياة، وذلك من منطلق ثبوت هذا الخالق من جهة أنّه التفسير المنحصر لوجود الكون، كما أنّه التفسير الراجح لوجود الحياة، وهو أيضاً تفسير قوانين الكون ونظامه؛ بل تفسير القوانين التي تجري عليها الكائنات الحيّة في وجودها وبقائها.
وعليه : من الجائز أن يكون هذا الأمر أيضاً هو تفسير أساس التنوّع الأحيائيّ؛ لأنّ هذا الأمر لا يعني تدخّل الخالق بنحوٍ مباشرٍ في تفاصيل شؤون الطبيعة؛ بل قد يكون جزءاً من تدخّل الخالق في إرساء مشهد الكون والحياة، كما هو الحال في الموارد الأخرى المذكورة.
وعلى هذا الأساس يكون من الطبيعيّ أن لا يعتبر نظريّة التطوّر الأحيائيّ من قبيل القوانين والحقائق العلميّة التي لا شكّ فيها بالشواهد المذكورة لها التي لا ترقى إلى درجة الملاحظة المباشرة لوقوع التطوّر في الطبيعة أو بالعوامل الصناعيّة؛ بل لا تزيد على أنّها تفسّر جملة من الأسئلة العلميّة والظواهر المتشابهة، والتي ربّما أمكن تفسير بعضها، مثل: ظاهرة تشابه الكائنات الحيّة أو بعض التدرّج الملحوظ لها في الوجود بأنّ ذلك هو النظام الذي اختاره الخالق لإيجادها.
2- وهناك من ينظر إلى الموضوع بعد البناء على ثبوت الإله وعلى ثبوت حقّانيّة الدين لاستبداه (7) ثبوت الرسالة الإلهيّة ومعاجزها ويبني أيضاً على أنّ نشأة الإنسان بالخلق أمر يقينيّ وقطعيّ في الدين ولا يحتمل تأويلاً.
وعلى هذا الأساس لا يزيد نظريّة التطوّر عن فرضيّة مقترحة أو رأي لجمع من علماء الطبيعة.
3- وهناك مَن ينظر إلى الموضوع على أساس إنكار وجود خالق للكون والحياة، أو استبعاده تماماً ، أو استبعاد دور الخالق في أيّة حالة متجدّدة في الكون استبعاداً مطلقاً ، ويرى أنّ المفروض تفسير أيّ ظاهرة في عالم الطبيعة بالأسباب الطبيعيّة.
فعلى هذا الأساس يمكن أن يقتنع الباحث بكون التطوّر حقيقة لا لأجل حجم إثباتها الذي تمثّله الشواهد المذكورة فحسب؛ بل لأنّ المرتكزات المفترَضة تقتضي أنّ أصل حدوث هذا التنوّع بسبب طبيعيّ ينبغي أن يُعدّ في نفسه حقيقةً ثابتة، حتّى مع غضّ النظر عن الشواهد المذكورة على هذه النظريّة من جهة أنّ حدوث ظاهرة الحياة على الكون أمر ثابت، والمفروض استبعاد أيّ عامل غير طبيعيّ في شأن الكون والكائنات، فلا يبقى هناك أيّ سبب آخر غير السبب الطبيعيّ، وليس هناك سبب محتمل إلّا نشأة الأنواع بالتطوّر التدريجيّ، وزوال بعضها بالانتخاب الطبيعيّ.
4- وقد يكون هناك من ينظر إلى الموضوع من غير مصادرة مسبقة، فهو لا ينطلق في بحثه من يقين بوجود خالق مؤثر في وجود الكون ونظمه، أو بوحي إلى الإنسان يتمثّل في الأديان كما لا ينطلق من استبعاد وجود الخالق وحقّانيّة الدين أيضاً، فهو يجوّز كلا الجانبين من غير ترجيح قويّ لأحد الاتّجاهين.
ففي هذه الحالة يتبيّن مستوى ثقل النظريّة في حدّ ذاتها بعد استبعاد العوامل الخارجيّة في شأنّا تماماً(8)
والراجح في الموضوع بعد ما تيسّر من التأمّل في شأنه وشواهده : أنّ التطوّر لا يزيد على النظريّة في علم الأحياء، ولا يرقى إلى درجة الحقيقة والقانون في مستوى ثبوتها العلميّ. وللنظريّات العلميّة مستويات متعدّدة في درجة إثباتها بحسب حجم الشواهد عليها، ومستوى نظريّة التطوّر مرهون بملاحظة حجم تلك الشواهد في البحث الآتي.
وبهذا التفصيل يظهر أنّ اعتبار هذه النظريّة فرضيّةً ورأياً أو نظريّةً أو حقيقة لا تبتني على إبهامٍ في تعريف هذه المصطلحات حتى نحتاج إلى عرضها وبسطها كما فعل غير واحد من الباحثين في الموضوع ؛ بل يتفرّع بعض الشيء على تلك المصادرات المسبقة وعدمها.
المبالغة في عدّ هذه النظريّة من أصول علم الأحياء الحديث :
الخلاف الثالث : في أنّ نظريّة التطوّر على تقدير ثبوتها هل هي قاعدة أحيائيّة اعتياديّة، أو تُعتبر أصلاً لعلم الأحياء الحديث. فربّما وُصفت هذه النظريّة في كلمات بعض الباحثيّ بأنّها أصل لعلم الأحياء الحديث.
والصحيح: أنّ هذه النظريّة لا تعدو أن تكون نظريّة تاريخية في نشأة التنوّع الأحيائيّ يمكن أن تفسّر بعض الأسئلة التاريخية والعامّة بشأن الأحياء، ولا يصحّ توصيفها بأنّها أصل علم الأحياء الحديث.
فإنّ المعنى الفنّيّ للأصل هو ما تبتني عليه جملة من القوانين والقواعد والنظريّات العلميّة، وهذا لا ينطبق على نظريّة التطوّر؛ لأنّها لا تزيد على توصيف تاريخي لنشأة الكائنات.
قوانين أحيائيّة ذات علاقة بنظريّة التطوّر من غير ابتناء عليها :
وإنّما الحقيقة التي هي أصل علم الأحياء الحديث بفروعه المختلفة المرتبطة بدورها مع سائر العلوم الطبيعيّة، مثل: علوم الطبّ والوراثة هي قوانين أخرى ذات علاقة بنظريّة التطوّر؛ بمعنى: أنّ هذه النظريّة تُعتبر تعليلاً أو امتداداً لها، فيوجب ذلك إسراء هذا الوصف إليها، ولنذكر لذلك أمثلةً ثلاثة:
وحدة النظام المادّيّ للحياة :
المثال الأوّل : وحدة النظام المادّيّ للحياة من حيث مكوّنات الخليّة الحيّة ونظام تركيبها وفاعليّتها ونشاطها وعوارضها.
مقارنة بين كروموسوم 2 بشري وكروموسومي 2a و 2b
في الشمبانزي.
فهذه القاعدة في غاية الأهمّيّة؛ لأنّها تبيّن كيفيّة تفرّع الكائنات عن شجرة الحياة وتتيح المقارنة الجينية بينها برصد نقاط الاشتراك والفرق والتشابه في ذواتها وأوصافها وعوارضها، ويتيح الانتفاع بالمعلومات والتجارب التي تُّرى على بعضها في شأن بعضها الآخر، كما هو الحال في التجارب المختبريّة للموادّ والأدوية على الحيوانات المختبريّة، مثل: ذباب الفاكهة، وفأرة البيوت، حيث يُنتفع بها في شأن الإنسان والحيوان، كما يُنتفع بالمعلومات المستحصلة في كلٍّ من الطبّ البيطريّ والطب الإنسانيّ في شأن الفرع الآخر.
ومن المعلوم أنّ هذه القاعدة هي ثابتة على كلّ حالٍ سواء كانت الكائنات الحيّة ترجع تاريخياً إلى أصل واحد كما تقول نظريّة التطوّر أو لا؛ ولكن اعتاد العلماء في علم الأحياء وسائر العلوم ذات العلاقة معه في توصيفهم التعليليّ لهذه القاعدة أن يذكروا أنّها تنشأ عن رجوع كلّ الكائنات الحيّة إلى أصلٍ واحد، فترجع الخصال المشتركة إلى الوراثة عن أصل مشترك بينها، كما يقولون مثل ذلك في وصف الظواهر الناشئة عن الوراثة في سائر الموارد.
قاعدة التطوّر الصغير :
والمثال الثاني: هو قاعدة التطوّر الصغير في الكائنات الحيّة.
فهذه القاعدة أيضاً من أهمّ قواعد علم الأحياء الحديث والعلوم ذات العلاقة معاً؛ لأنّها تبيّن دور العوامل المختلفة في التطوّرات المشهودة للكائنات الحيّة وصفاتها وعوارضها، مثل: تطوّر الإنسان إلى أقوام وملل مختلفة في أوصافهم وخصائصهم، وتطوّر الميكروبات تدريجاً ضدّ العقاقير التي تكافَح بها و،تطوّر الخلايا الحيّة ضدّ السموم وتكيّفها مع الظروف الصعبة؛ ومن ثَمّ اعتاد علماء الطبيعة والأحياء والطبّ وغيرها على توصيفهم التعليليّ لخصائص الكائن الحيّ على ما حدث للأجيال السابقة منها، فيقولون مثلا في علوم الطبّ: إنّ الإنسان بحاجة في ضمان صحّته إلى رياضيات بدنيّة خاصّة؛ لأنّ آباءنا خلال آلاف الأجيال كانوا يعيشون على النمط الخاصّ الموجب لتكيّف بدن الإنسان على القيام بتلك النشاطات الخاصّة.
من أمثلة التطور الصغير الأفعى المقلمة التي
طورت مناعة للسم  تيدرودوتاكسين
الموجود في فرائسها من البرمائيات
ورغم أنّ قاعدة التطوّر الصغير داخل النوع الواحد لا تعني ثبوت قاعدة التطوّر الكبير الرابط بين الأنواع فإنّ الأسلوب الشائع عند العلماء في تلك العلوم اعتبار كلتا القاعدتين من باب واحد وإسناد جميع المعلومات المتعلّقة بقاعدة التطوّر الصغير إلى أصل قاعدة التطوّر الأحيائيّ، رغم تصريح بعضهم في مقام تفصيل الحديث في التطوّر الأحيائيّ إلى صعوبة الانتقال من وقوع التطوّر الصغير إلى ترجيح التطوّر الكبير.
قاعدة ملاءمة الكائنات مع بيئتها :
المثال الثالث : ظاهرة ملاءمة الكائنات الحيّة مع بيئتها وظروفها، وهي معروفة باسم تكيّف الكائن الحيّ مع بيئته.
وهذه الملاءمة ظاهرة مشهودة بوضوح في آلاف الموارد في النباتات والحيوانات، حيث يلاحَظ بدراسة خصائص هذه الكائنات ملاءمتها مع بيئتها في جهات كثيرة بما يؤدّي إلى الحفاظ عليها وبقاء نوعها ومقاومتها للضغوط البيئيّة التي تعيش فيها، فالنباتات الصحراويّة مثلا متكيّفة مع ظروف الصحراء من قلّة الماء ومقاومة الحرارة، من خلال اختزانّا للماء لمدّة أطول بما لا نشهده في النباتات الأخرى، وتلك حالة معروفة قديماً حتّى قال الإمام علي)ع( في كلامٍ له في نّج البلاغة: )وَكَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ: إِذَا كَانَ هذَا قُوتُ ابْنِ أَبِي طَالِب، فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الا قْرَانِ وَمُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ . أَلاَ وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أصلب عودا والروائع الخَضِرة أرق جلودا ، وَالنَّابِتَاتِ العِذْيَةَ أَقْوَى وَقُوداً، وَأَبْطَأُ خُمُوداً (9) ، كما أنّ الحيوانات الصحراويّة مثل الجمل أيضاً تَحتمل الظروف القاسية في تحصيل الطعام والشراب بما لا تَحتمله سائر الحيوانات.
وتُقسم ملاءمة الكائن الحيّ مع ظروفه إلى ثلاثة أقسام مترابطة :
1- ملاءمة جسديّة وعضويّة، مثل: اختلاف الطيور في طول مناقيرها، حيث أنّ مناقير بعضها أطول من بعض من جهة حاجة البعض إلى منقار طويل لاستخراج غذائها من الأزهار. ووجود حوافز للخيل تتلاءم مع الجري السّيع. وملاءمة لون الحيوانات مع لون بيئتها تخفّياً من الأعداء، كما في كثيرٍ من الحشرات وفي الأسماك المرجانيّة والضفادع والحيوانات الصحراويّة بل جملة من النباتات أيضاً. ووجود طبقة سميكة من الدهن تحت جلد بعض الحيوانات في المناطق الباردة لحمايتها من البرد.
2- ملاءمة وظيفيّة فسيولوجيّة، حيث نجد أنّ الكائنات الحيّة من خلال النشاطات الكيميائيّة الحيويّة داخل جسمها تقوم بأمور مناسبة مع بيئتها، مثل: إفراز الغدد العرقيّة في جسم الإنسان لمواجهة ارتفاع الحرارة، وتغيُّر لون الحرباء عند طروّ الخطر عليها.
3- ملاءمة سلوكيّة، حيث نلاحظ أنّ الكائنات الحيّة تقدر على سلوكيّات ملائمة لها، مثل: انحناء النباتات تّجاه الضوء، وامتداد جذور بعض النباتات لمسافات طويلة بحثاً عن الماء، واختباء بعض الحيوانات في النهار والخروج ليلاً للبحث عن الطعام حذراً من الأعداء، وما إلى ذلك.
وبذلك يظهر: أنّ ظاهرة ملاءمة كثير من خصائص الكائن الحيّ مع حاجاته في بيئته أمر مشهود بشكلٍ واسعٍ للغاية؛ مِّما يصحّ أن تُعَدّ معه أمراً يقينيّاً، ففي كلّ كائنٍ حيٍّ يجد الباحث عند تأمّل خصاله بالمقارنة مع خصائص بيئته ملاءمة بينهما في جهات كثيرة. وقد أصبح ذلك جزءاً توصيفيّاً لكلّ كائن حيّ في علم الأحياء المعاصر؛ ومن ثَمّ يصحّ أن تُعَدّ هذه الصفة من أهمّ الخصال الملحوظة المطّردة في أصلها في الكائنات الحيّة.
ومن المعلوم أنّ هذه الحالة أيضاً ثابتة في نفسها، بغضّ النظر عن أن يكون ذلك جزءاً من خلقتها أم تكيُّفاً لاحقاً لوجودها على سبيل التطوّر الأحيائيّ؛ ولكن اعتاد العلماء على افتراض حدوث هذه الملاءمة من خلال تطوّر طارئ على الكائن حفاظاً على نفسها وتكيُّفاً مع بيئتها وإن لم يكن هناك أيّ دليل على حدوثها؛ ومن ثَمّ يعبّرون عن هذه الملاءمة بالتكيّف، وقد يحتجّ بعض العلماء على حدوث بعض هذه الخصائص بأنّ للحيوان والنبات أصناف أخرى لا يبعد أن ترجع جميعاً إلى أصل واحد وهي غير متّصفة بهذه الخصائص، علماً أنّ ذلك على تقدير حدوثه فهو من قبيل التطوّر الصغير لا الكبير.
فهذه أمثلة ثلاثة لقواعد تُعدّ من أصول علم الأحياء والعلوم المختلفة المتعلّقة به لا تبتني على قاعدة التطوّر الأحيائيّ؛ ولكنّ التلقّي الشائع عند العلماء الجاري على قبول هذه القاعدة والانطلاق منها في تفسير القواعد المسلَّمة واعتبارها امتداداً لهذه القاعدة يوجب انطباعاً لدى الباحث بأنّ هذه النظريّة هي أصل علم الأحياء الحديث.. وهذا قول لا يخلو عن مزج بين القواعد المتناسبة بشيء من المسامحة والتوسّع في التعبير.
_______________

الهوامش
______________
1- يونس: 31 .
2- الروم: 24 .
3- الحج: 47 .
4- لاحظ: لماذا النشوء والارتقاء حقيقة: 32 .
5- لماذا النشوء والارتقاء حقيقة: 31 .
6- لماذا النشوء والتطوّر حقيقة: 147 .
7- استبداه : من البداهة
8- يلاحَظ أنّه ليس المقصود بهذا الكلام أن تدَّخل تلك العوامل في شأن الموقف النهائيّ من هذه النظريّة أمر غير منطقيّ وموضوعيّ؛ إذ من الطبيعيّ تأثُّر تقييم كلّ حدث بملابسات من هذا القبيل؛ ولكنّ المراد إيجاد مقياس للنظر إلى ذات النظريّة من خلال شواهدها ومؤشّراتها وغضّ النظر عن المؤشّرات الخارجيّة مِّما يتعلّق بأمر وجود الخالق وحقّانيّة الدين .
9- نّج البلاغة، ط صالح: 418 ، الكتاب 45 .

 


----------------------------------------------------------
(واحة) وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف
© Alhawza News Agency 2017

وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف - واحة
© Alhawza News Agency 2019

اخبار ذات صلة

تعلیقات الزوار