أخبار اسلامية

لا تهرب منا.. فنحن نحبك - عماد الهلالي

لا تهرب منا.. فنحن نحبك - عماد الهلالي

لا تهرب منا.. فنحن نحبك
#قصة_قصيرة بقلم الاستاذ عماد الهلالي

(واحة) وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف


 تعبَ حجّي محسن من المشي وضجر من نسيانه مرة أخرى عنوان بيت ابنته الصغيرة التي جاء ليزورها ويستأنس برؤيتها ورؤية أولادها يكبرون، رغم أنها لا تزال طفلة بعينه، تلك الطفلة التي لم يكن فرحاً بها كما كان فرحاً بإخوانها الأكبر منها ولكنها اليوم أحب أولاده إليه.. إنها الأكثر ترحيباً به من بينهم ولا تتأثر أبداً إذا زارها من غير موعد، ولا تمل من قصصه القديمة المكررة عن آبائه وأعمامه التي كان يقصها كأنها مشاهد طرية حصلت بالأمس وشخصيات لا زالت تنبض بالحياة، يقصها عليها وعلى أولادها ليتذكرها أولاً وليسرهم بها ثانياً وليعلّمهم عظمة أسلافهم وفتوّتهم.. وإن كان أبناء هذا الجيل لا يعتنون كثيراً بالحكمة من مثل هذه القصص التي يستمعونها وهم يلعبون بأجهزتهم أو يستأذنون في منتصف القصة، أو يتبادلون بنظرات وإشارات لا يفهمها.. كان يلاحظ شيئاً من التثاقل عندهم منه ولكنه يحبهم ويفرح بهم فلم يكن لينزعج منهم فكل الشباب مشاغبون في البداية ثم يكبرون ويتعلمون احترام الكبير وأهمية قصص الآباء..
 (تغيّرت المحلات وأشكال البيوت..) حاول حجي محسن أن يفسّر نسيانه للطريق دون أن يعترف بضعف ذاكرته..
 أين يذهب الآن؟ فمن العيب أن يرجع فيخبرهم أنه نسي بيت ابنته.
 لم يبق أحد من أصدقائه وأترابه وأقربائه حياً ليزوره، وسبقته زوجته الحنونة إلى مغادرة الدنيا بعد مرض طويل أراحها الموت منه..
 تذكرهم جميعاً وأحس بالشوق إليهم، (ترى أين هم الآن؟) قال حجي محسن في نفسه، (أين ذهب كل ذلك الضحك.. وكل ذلك النشاط وكل ذلك الصفاء.. والحب.. والمواقف الرجولية النبيلة.. والعظمة؟ هل لا زالوا يضحكون ويفكرون كما كانوا؟ .. ويحبون كما كانوا؟)..
 كان حجي محسن دائماً يدعو الله أن يطيل عمره وكان يخاف من الموت كثيراً، وقد طال عمره حقاً، حتى صار يشعر بالوحشة لأنه بقي لوحده..
 (ألا أنها من مساوئ العمر الطويل أن يرى الرجل أحباءه يموتون أمامه، إن ألم موتهم أكبر من ألم موته..) كلمات بقي يتذكرها من قائل لا يتذكره..
 أين يذهب الآن؟ بل أين يستريح؟...
 أقبل إليه شاب وسيم الوجه يلبس ثياباً عربية كثياب كبار السن وسلّم عليه بطريقة مهذبة، فنظر حجي محسن في وجهه وأعجبته هيأته فهو شاب بوقار الشيوخ وهي الصورة التي كان يتمنى أن يكون عليها كل شاب.. فتذكر شبابه وندم على سنوات طويلة تأخر فيها في تيه الشباب وطيشه حتى نضج عقله وتديّن سلوكه بعد ذبول شيء كبير من شبابه...
 قال له ذلك الشاب: يبدو عليك التعب يا حاج محسن، فلمَ لا تستريح على هذا الكرسي لنتحادث؟
 فرح حجي محسن بدعوته وتحرك معه ليجلسان على كرسيين مريحين على جانب النهر.. وكان الهواء عليلاً وكأنه مشهد من مجالس الريف القديمة التي كان يتسامر فيها الشباب بعيداً عن هموم الشيوخ.
 سأله الشاب: ما أكثر ما يهمّك حاج محسن؟
 فتأوّه حجي محسن وتذكر وانشرح مع ذلك الشاب الذي يلتقيه لأول مرة ولكنه يحس بالثقة به، ثم قال: قد عملت أعمالاً سيئة في شبابي وبعد شبابي ثم ندمت عليها ولا زلت أستحي منها كلما تذكرتها، فلا أدرى هل غفرها الله لي؟ أم أنه لم يغفرها؟.
 قال الشاب: قد غفرها الله لك ما دمت ندمت عليها، [قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ].
 فرح حجي محسن بهذه الآية التي بدت وكأنه لم يسمعها من قبل، ولكنه تذكر شيئاً آخر..
 قال: فهناك مواقف ظلمت فيها بعض الخوّان في موقف عشائري وتكلمت معه بحدة، ولا أدري إن كان غفرها لي وقد قيل لي أنه مات، ولم أطلب منه براءة الذمة؟.
 الشاب: هل تقصد حجي محمد؟ هاهو ذا يسمع كلامك فاعتذر إليه إن أحببت.
 نظر حجي محسن فوجد حجي محمد جالساً قريباً منهما في نفس المكان وكأنه سمع كلامه،
 فحرّك حجي محمد كفه ونفضه على طريقته القديمة، في إشارة إلى أن ما فعله كان شيئاً لا يستحق الذِكر وأنه أسقطه عنه.
 الشاب: فما تحب أن يفعله الله بك؟
 قال: قد فعل حسناً طيلة ما مضى من العمر، ولم يقصّر معي، ولا أريد أن أتمنى على الله شيئاً لا يكون.
 قال له الشاب: إن الله على كل شيء قدير فاطلب منه، فإنه يقول: [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ].
 تعجب حجي محسن من هذه الآية وتساءل هل أنني إذا طلبت من الله أن لا يميتني.. وأن يعيد إليّ صحتي وشبابي.. ويوفّر لي جميع الملذات.. والأملاك.. والمزارع والبساتين التي كنت أطمح لها طيلة عمري.. ويُرجع إلي أهلي وأعمامي وزوجتي وولدي الذي مات شاباً في حادث سيارة وبقيت حسرته في قلبي إلى اليوم وأولاد عمي وأصحابي وأن لا يميتهم مرة أخرى ولا يمرضهم ولا يبتليهم..
 هل أنني إذا طلبت من الله كل ذلك فسيفعله لي كما قال هذا الشاب الذي يبدو واثقاً من كلامه وكأنه خازن مواهب الله؟
 ابتسم حجي محسن من أفكاره الساذجة التي لا زالت ترافقه على كبر سنه، ووبّخ نفسه على جانب طفولي بين جوانحه لم تهذبه الأيام، وآمال شبابية لم ييئس منها وأحباب لم يصدق بعد أنهم ماتوا..
 قال حجي محسن: إن الله على كل شيء قدير أيها الشاب ولكنني أستحي أن أطلب منه شيئاً لم يجعله لأحد في الدنيا.
 ابتسم الشاب في وجهه، وقال: فقم معي نعبر الجسر إلى الجانب الآخر من النهر.
 قال الشاب: لا إله إلا الله وهو يقوم فكررها معه حجي محسن، وقام معه بنشاط وكأن كل آلام ظهره ومفاصله قد زالت وعبر معه الجسر، وكان شكل أمواج النهر جميلاً جداً، وفي الجانب الآخر من النهر بستان مليء بالأشجار الجميلة ونخيل عال يبرز من فوق الأشجار الكثيفة كتصميم البساتين القديمة لأغنياء الريف، وأرض ذلك البستان خضراء بالحشائش وعليها سجّاد مفروش بالطريقة التي كان يفضلها في مجالس أهله على شريعة النهر..
 وتحت تلك الأشجار رأى أناساً عرفهم قبل أن ينظر في وجوههم.. أنهم أبواه وزوجته وولده الشاب وإخوته وأصدقاؤه وكل الذين كان يحبهم.. كلهم شباب متنعمون يأكلون من فواكه ذلك البستان ويتفاكهون بينهم وكأنهم بدأوا بحكاياتهم قبل مجيئه بزمان طويل..
 التفتوا إليه جميعهم بفرح حين رأوه مقبلاً إليهم مع ذلك الشاب الوسيم، وسأله أبوه بدهشة: لقد تأخرت علينا حاج محسن كثيراً فلماذا تكره لقاءنا؟
 خجل حجي محسن قليلاً من أبيه ثم فرح به وكعادته معه لم يشعر أنه بحاجة ليعتذر أمامه بل يتركه قليلاً لينتقل إلى حديث آخر..
 وشعر حجي محسن كأنه عاد شاباً صغيراً..
 والتفت إلى الشاب الوسيم الذي كان برفقته، ليشكره.. وليسأله إن كان يمكنه البقاء معهم؟
 فقال له ذلك الشاب: نعم يمكنك، ولكن تعال معي لأريك كيف يحبك أولادك وبناتك وأولادهم وكيف يحزنون على فراقك ويعتنون بجسدك في تغسيله وتكفينه ودفنه حين رأوك ميتاً على بابهم.. ثم سنرجع عاجلاً إن شاء الله تعالى.

 

 


----------------------------------------------------------
(واحة) وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف
© Alhawza News Agency 2017

وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف - واحة
© Alhawza News Agency 2019

اخبار ذات صلة

تعلیقات الزوار