اللقاءات والتحقيقات

محمد مهدي الاصفي - الانتظار الموجه

محمد مهدي الاصفي - الانتظار الموجه
المصدر: (واحة) وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف.

الانتظار الموجه
 
بقلم آية الله المرحوم الشيخ محمد مهدي الآصفي (رحمه الله)
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: ١٠٥)

في علاقته بها، وثانياً في علاقتها به.


علاقة الانتظار بالحركة
التّوجيه النفسي لمسألة الانتظار
يحبُّ بعض الناس أن يصوِّروا حالة (الانتظار) بأنّها مسألة نفسية نابعة من حالة الحرمان في الطبقات المحرومة في المجتمع والتاريخ، وحالة الهروب من الواقع المثقل بالمتاعب إلى الاستغراق في تصوّر المستقبل، الذي يتمكن فيه المحرومون من استعادة جميع حقوقهم واستعادة السيادة والحقوق المغتصبة، وهذا نوع من (أحلام اليقظة)، أو الهروب من الواقع إلى التخيُّل.

مناقشة التّوجيه المقدّم
أقول: إنّ هذا التوجيه لمسألة الانتظار غير علمي بالتأكيد، إذا قدّر لنا أن ننظر في تاريخ المسألة والمساحة الواسعة التي تحتلّها من العقائد الدينية المعروفة في تاريخ الإنسان.

الانتظار في المدارس الفكريّة (غير الدينية)
تتجاوز مسألة الانتظار الدائرة الدينية وتعمّ المذاهب والاتجاهات غير الدينية كالماركسية مثلاً، كما يقول برتراند راسل: (الانتظار لا يخصّ الأديان فحسب، بل المدارس والمذاهب أيضاً تنتظر ظهور منقذ ينشر العدل ويحقّق العدالة).
والانتظار، كما يقول راسل، عند الماركسيين، هو الانتظار نفسه عند المسيحيين.
وللانتظار، عند (تولستوي) المعنى نفسه الموجود عند المسيحيين، إلاّ أن هذا الروائيّ الروسيّ يختلف عن المسيحيين في الزاوية التي يطرح منها المسألة.

الانتظار في الأديان السابقة على الإسلام
نقرأ، في العهد القديم من الكتاب المقدّس: (لا تقلق لوجود الأشرار والظالمين فسوف تنقطع سلالة الظالمين، والمنتظرون لعدل الله يرثون الأرض والذين لعنوا يتفرقون، والصالحون من الناس هم الذين يرثون الأرض ويعيشون فيها إلى نهاية العالم)(٣).
وهذه الحقيقة التي يقرّرها المزمور ٣٧، من كتاب المزامير، هي التي جاءت في القرآن الكريم: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(٤).

الانتظار عند المسلمين (من أهل السُنّة)
ولا يختصّ انتظار (المهدي المنقذ (عليه السلام))، بالشيعة، فقد تواترت روايات المهدي (عج) من طرق السُنّة بأسانيد صحيحة ومستفيضة لا يمكن التشكيك فيها كما وردت من طرق الشيعة الإمامية.
يقول عبد الرّحمن بن خلدون، من علماء القرن الثامن الهجري، وصاحب المقدّمة الشهيرة لكتاب (العِبَر...): (إعلم أنّ المشهور من الكافة، من أهل الإسلام، على مرّ الأعصار، أنّه لا بدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيّد الدين ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، يستولي على الممالك الإسلامية ويسمّى بـ (المهدي)، ويكون خروج الدجّال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأنّ عيسى (عليه السلام) ينزل من بعده فيقتل الدجّال، أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتمّ بالمهدي في صلاته)(٥).
ويقول الشيّخ عبد المحسن العبّاد، المدرّس بالجامعة الإسلامية في المدينة المنوّرة، في بحث قيِّم له: (إثر حادث الحرم المؤلم حصلت بعض التساؤلات، فأوضح بعض العلماء، في الإذاعة والصحف، صحة كثير من الأحاديث الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنهم الشّيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رئيس إدارة البحوث العلمية والدعوة والإرشاد كتب في بعض الصحف مثبتاً ذلك بالأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله). ومنهم الشيّخ عبد العزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النّبويّ).
ثُمَّ يذكر أ نّه كتب هذه الرسالة موضّحاً أنّ القول بخروج المهدي آخر الزمان تدل عليه الروايات الصحيحة، وهو ما عليه العلماء من أهل السنّة في القديم والحديث إلاّ ما شذّ(٦). ويقول ابن حجر الهيتمي، في الصواعق المحرقة، في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا...)(٧)، قال مقاتل ومن تبعه من المفسرين: إنّ هذه الآية نزلت في المهدي.
وستأتي الأحاديث المصرّحة بأنّه من أهل البيت النّبويّ - وحينئذ - ففي الآية دلالة على البركة في نسل فاطمة وعليّ رضي الله عنهما، وأنّ الله ليخرج منهما كثيراً طيّباً، وأن يجعل نسلهما مفاتيح الحكمة، ومعادن الرّحمة. وسِرُّ ذلك أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أعاذها وذريّتها من الشّيطان الرّجيم، ودعا لعليّ (عليه السلام) بمثل ذلك(٨).
ويقول الشّيخ ناصر الدين الألباني من شيوخ الحديث المعاصرين في مجلة (التمدّن الإسلامي): (أمّا مسألة المهدي فليعلم أنّ في خروجه أحاديث كثيرة صحيحه. قسم كبير منها له أسانيد صحيحة وأنا مُورِد هنا أمثله منها)، ثُمَّ يذكر طائفة من هذه الأحاديث.

أحاديث الانتظار عند الشيعة الإماميّة:
أمّا حديث انتظار الإمام المهدي (عج) عند الشيعة الإماميّة فهي كثيرة، متواترة، وردت طائفة منها بطرق صحيحة.
وقد جمع بعض العلماء هذه الأحاديث في منهج علمي قيّم، منهم: الشّيخ لطف الله الصافي الكلپايكاني في كتابه القيّم (منتخب الأثر) ومنهم الشيخ عليّ الكوراني في موسوعة الإمام المهدي(٩) وغيرهما.
ولسنا الآن بصدد استعراض هذه الروايات عن أي من الطريقين.
فليس موضوع دراستنا هذه دراسة الأحاديث الواردة في الإمام المهدي (عج) ومناقشة هذه الروايات من حيث السّند والدلالة، وإنّما نطلب في هذه الدراسة أمراً آخر نسأله تعالى أن يوفقنا له، ونترك مسألة الأحاديث الواردة في الإمام المهدي إلى مجالها المخصّص من كتب الحديث. والمسألة التي نريد أن نتحدّث عنها، هنا، إن شاء الله هي:

ما هو الانتظار؟ وما قيمته الحضاريّة؟
الانتظار مفهوم إسلامي وقيمة حضارية: وعلى هذا المفهوم يترتب سلوك حضاريّ معيّن، فقد يفهم الناس الانتظار بطريقة سلبية يتحوّل فيها هذا المفهوم إلى عامل للتخدير والإعاقة عن الحركة.
وقد يفهم بطريقة إيجابية تجعل منه عاملاً من عوامل التحريك والبعث والإثارة في حياة الناس. إذن لابدّ لنا من أن نقدّم تصوّراً دقيقاً لمسألة الانتظار، وهذه هي مهمّتنا الأساسية في هذه الدراسة.
الانتظار ثقافة ومفهوم حضاري يدخل في تكوين عقليتنا وأُسلوب تفكيرنا ومنهج حياتنا ورؤيتنا إلى المستقبل، وبشكل فاعل ومؤثر، وله تأثير في رسم الخط السياسي الذي نرسمه لحاضرنا ومستقبلنا.
وللانتظار عمق حضاري في حياتنا يقرب من ألف وتسعين سنة لأنّ الغيبة الصغرى انتهت سنة (٣٢٩ هـ)، وقد مرّ على هذا التاريخ ألف وتسعون سنة تقريباً.
وخلال هذا التاريخ دخلت هذه المسألة في صياغة عقليتنا السياسية والحركية بشكل مؤثّر. ولو قمنا - نظريّاً - بعمليّة تجريد لتاريخنا السياسي والحركي عن عامل (الانتظار) لكان لهذا التاريخ الطويل شأن آخر.
والذي يقرأ (دعاء الندبة) الذي يدأب عليه المؤمنون أيام الجمعة يعرف عمق هذه المسألة ونفوذها في نفوس المؤمنين وعقليتهم ومنهجهم في التفكير والحركة.


أنحاء الانتظار
يكون انتظار الإنقاذ على نحوين:

النحو الأوّل من الانتظار:
انتظار الإنقاذ في ما ليس بوسع الإنسان أن يقدّمه أو يؤخّره، كما لو كان الغريق ينتظر وصول فريق الإنقاذ إليه من الساحل ويراهم مقبلين إليه لإنقاذه. فإنّه من المؤكد أنّ الغريق لا يستطيع أن يقدّم وصول فريق الإنقاذ إليه، إلاّ أنّه من المؤكد أيضاً أنّ هذا الانتظار يبعث في الغريق نفسه أملاً قوياً في النجاة، ويدخل نور الأمل على ظلمات اليأس التي تحيط به من كلّ جانب.
و(الأمل) يمنح الإنسان (المقاومة) بالضرورة، فيواصل الغريق المقاومة حتّى يصل فريق الإنقاذ إليه. وعجيب أمر هذا الإنسان إذا انهار، وإذا قاوم.. فإذا انهار لا يتمكن أحد من أن يثبته، أو يبني ويعيد ما ينهار منه. وقد يكون هذا الذي ينهار كيان سياسي ضخم، وليس فرداً أو جماعة، وكلّنا قد شاهد في وقت قريب انهيار الاتحاد السوفيتي، ثاني أعظم كيانين سياسيين في العالم، إن لم يكن الأوّل المكرّر منهما.
وإذا قاومَ الإنسان ورزقه الله القدرة على المقاومة والصمود، فلا يفتّ شيء في مقاومته وصموده ولا يُضعف شيء ثباته ومقاومته. ومن عجب أن يتحول هذا الإنسان الكائن من لحم ودم وأعصاب إلى كتلة مرصوصة وقوية يتحمّل من العذاب ما يتفتّت منه صلب الحديد. ولا شكّ في أنّ هذه المقاومة من الله تعالى، ولا شكّ في أنّ (الأمل) من أسباب هذه المقاومة، وهاتان معادلتان لا سبيل للتشكيك فيهما.
المعادلة الأُولى:
إنّ (الانتظار) يبعث على (الأمل)، ويخترق ظلمات اليأس التي تكتنف حياة الإنسان.
المعادلة الثانية:
إنّ (الأمل) يمنح الإنسان (المقاومة).

النحو الثاني من الانتظار
وهو ما يستطيع الإنسان أن يقرّ به ويدّعي به، كالشفاء من المرض وإنجاز مشروع عمراني أو علمي أو تجاري، والانتصار على العدوّ والتخلص من الفقر، فإنّ كلّ ذلك من الانتظار، وأمر تعجيل هذه الأُمور أو تأخيرها وتأجيلها بيد الإنسان نفسه.
فمن الممكن أن يعجّل بالشفاء ومن الممكن أن يؤخّره أو ينفيه، ومن الممكن أن يعجّل بالمشروع التجاري أو العمراني أو العلمي أو يؤخّره، أو يلغيه رأساً. ومن الممكن أن يعجّل بالنصر والغنى أو يؤخرهما أو ينفيهما رأساً.
وبهذا التقرير يختلف أمر هذا الانتظار عن النحو الأوّل الذي تحدّثنا عنه، فإنّ بإمكان الإنسان أن يتدخّل في تحقيق ما ينتظره والإسراع به أو تأجيله أو إلغائه.
ولذلك فإنّ الانتظار من النوع الثاني يمنح الإنسان بالإضافة إلى (الأمل) و(المقاومة): (الحركة). وهذه الأخيرة، أعني (الحركة)، تخصُّ هذا النحو من الانتظار، فإنّ الإنسان إذا عرف أنّ نجاته وخلاصه يتوقّفان على حركته وعمله وجهده سوف يبذل لخلاصه ونجاته في عمله من الجهد والحركة ما لا قِبل له به من قبل.
ففي الانتظار، من النحو الأوّل، لم يكن بإمكان الإنسان غير (الأمل) و(المقاومة). أمّا الانتظار الأخير فهو يمنح الإنسان بالإضافة إلى (الأمل) و(المقاومة) (الحركة) أيضاً.
١ - أمل في النفس يُمكّن الإنسان من اختراق الحاضر ورؤية المستقبل، وشتان بين مَنْ يرى (الله) و(الكون) و(الإنسان) من خلال معاناة الحاضر فقط وبين مَنْ يرى ذلك كلّه من خلال الماضي والحاضر والمستقبل. ولا شكّ في أنّ هذه الرؤية تختلف عن تلك ولا شكّ في أنّ العُتمة والظلمة والسلبية التي تكتنف الرؤية الأُولى تسلم منها الرؤية الثانية.
٢ - ومقاومة تمكّن الإنسان من مواصلة الصمود ومقاومة الانهيار والسقوط حتّى وصول المددّ، وما لم يكن للإنسان أمل في وصول المددّ فإنّه لا يقاوم.
٣ - وحركة تمكّن الإنسان من تحقيق الخلاص والنجاة، وتحقيق القوة والغنى والكفاءة. وهذا الانتظار هو (الانتظار الحركي)، وهو أفضل أنواع الانتظار، والانتظار الذي نحن بصددّ دراسته من هذا النوع الأخير.

آلية التغيير:
وهذا الانتظار يشبه توقُّع الناس من الله تعالى أن يغيّر أُمورهم من السيِّء إلى الحسن، ومن الفقر إلى الغنى، ومن العجز إلى الكفاءة، ومن الهزيمة إلى النصر. ولا شكّ في أنّه توقُّع صحيح وعقلاني، فإنّ الإنسان ركام من الضعف والعجز والفقر والجهل والسوء.
والله تعالى هو المؤمَّل ليغيّر ذلك كلّه ويحوّله إلى القوّة والكفاءة والغنى والعلم والحسن. وليس من بأس على الإنسان من هذا التوقّع والانتظار من الله تعالى ولكن بشرط أن يسلك الإنسان لتحقيق هذا الانتظار الآلية المعقولة التي دعا إليها الله تعالى لهذا التغيير، فإنّ هذا التغيير من جانب الله تعالى لاشكّ في ذلك، ولكن ضمن آلية معينة، وما لم يستخدم الإنسان هذه الآلية، فلا يصحّ له أن يتوقّع أو ينتظر هذا التغيير من جانب الله تعالى. وهذه الآلية هي أن يبدأ الإنسان بتغيير ما بنفسه حتّى يُغيّر الله تعالى ما به.
إنّ ما بنا من التخلُّف الاقتصادي والهزيمة العسكرية والتخلُّف العلمي وسوء الإدارة... ناشئ عمّا بأنفسنا من الإشكالية والضعف والكسل واليأس، وفقدان الجرأة والشجاعة والجهل... فإذا غيرّنا (ما بأنفسنا) غيّر الله تعالى ما بنا من دون شكّ. وليس من شكّ في أنّ الله تعالى هو وحده الذي غيّر ما بنا.
كما ليس من شكّ في أنّنا لو لم نغيِّر ما بأنفسنا لا يغيّر الله ما بنا إلاّ إِنْ شاء الله، وهاتان حقيقتان تأبيان النقاش والتشكيك. وانتظار التغيير من الله تعالى حقّ ليس فيه شكّ، ولكن على أن يقترن هذا الانتظار بالحركة والفعل من ناحية الإنسان، وهذا هو الانتظار الحركي في توضيح ثان.

الانتظار (حركة) وليس (رصداً):
إنّ من الخطأ أن نفهم الانتظار على أنّه رصد سلبي للأحداث المتوقّعة من دون أن يكون لنا دور فيه سلباً أو إيجاباً، كما نرصد خسوف القمر وكسوف الشمس، فالتفسير الصحيح للانتظار أنه (حركة) و(فعل) و(جهاد) و(عمل)، وسوف ندخل إن شاء الله في تفاصيل هذا البحث.

ما هو السبب في تأخير (الفرج)؟
للإجابة الصحيحة عن هذا السؤال يتوقّف فهم المعنى الصحيح للانتظار، وهل هو بمعنى (الرصد) أو (الحركة)؟
الرأي الأوّل
فإذا كان السبب في تأخير الفرج بظهور الإمام (عجّل الله فرجه) وثورته الكونيّة الشاملة هو أن تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً، فلابدّ من أن يكون الانتظار بمعنى (الرصد)، فلا يجوز لنا أن نوسّع رقعة الظلم والجور في الأرض، ببداهة الإسلام.
ولا يصح لنا أن نكافح الظلم والجور لأنّ ذلك يؤدي إلى إطالة زمن الغيبة، بموجب هذه الرواية.. فلابدّ من أن نرصد إذن تطوّر الظلم والجور في حياتنا السياسية والاقتصادية والعسكرية والقضائية، حتى إذا امتلأت الأرض ظلماً وجوراً ظهر الإمام (عليه السلام)، وأعلن الثورة ضد الظالمين والفرج عن المظلومين.
الرأي الثاني
وإذا كان السبب في تأخير الفرج هو عدم وجود الأنصار الذين يُعدّون المجتمع لظهور الإمام والذين يوطّئون الأرض ويمهّدونها لثورته الشاملة، ويدعمون ثورة الإمام ويسندونها، فإنّ الأمر يختلف. فلابدّ من العمل والإعداد والتوطئة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإقامة سلطان الحقّ على وجه الأرض ليأتي الفرج بظهور الإمام (عجّل الله فرجه). وبناءً عليه لا يكون الانتظار بمعنى (الرصد) بل بمعنى (الحركة)، والعمل، والجهاد لإقامة سلطان الحقّ على وجه الأرض؛ الأمر الذي يقتضي إعداداً يوطّئ الأرض لظهور الإمام وثورته الشاملة.
ويختلف معنى الانتظار سلباً وإيجاباً بين (الرصد) و(الحركة) بناءً على هذا الفهم لظهور الإمام (عليه السلام) وظهور الفرج على يده. ونحن نناقش الآن هذه المسألة لنصل إلى الجواب الصحيح.

نقد الرأي الأوّل
لنا مجموعة ملاحظات على الرأي الأوّل، وهي:
١ - ليس معنى أن تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً هو أن يجفّ نبع التوحيد والعدل على وجه الأرض، ولا تبقى رقعة يعبد الناس عليها الله تعالى، فهذا أمر مستحيل وعلى خلاف سُنن الله تعالى...
وإنّما المقصود بهذه الكلمة طغيان سلطان الباطل على الحقّ في الصراع القائم بين الحقّ والباطل دائماً.
٢ - ولا يمكن أن يزيد طغيان سلطان الباطل على الحقّ أكثر ممّا هو عليه الآن. فقد طغى الظلم على وجه الأرض شرّ طغيان، وأنّ الذي يجري في بلاد البلقان على مسلمي البوسنة والهرسك بأيدي الصرب أمرٌ يقلُّ نظيره في تاريخ الظلم والإرهاب، ولطالما شقّ الصرب بطون النساء الحوامل، وأخرجوا من أرحامُهنَّ الأجنّة، وقتلوا الأطفال الصغار، وقطّعوا رؤوسهم، ولعبوا بها (لعبة الكرة) أمام أعين آبائهم وأُمّهاتهم.
وفي الشيشان يذبح الروس أطفال المسلمين، ويقدّمون لحومهم طعاماً للخنازير. والظلم الذي مارسه الشيوعيون على مسلمي بلاد آسيا الوسطى إبّان الحكم الشيوعي أمرٌ تقشعرّ له الجلود. وما يجري على المسلمين في سجون إسرائيل من العذاب الوحشي أمرٌ فوق حدود التعبير. وفوق ذلك كلّه وأعظم منه، ما جرى ويجري في العراق من ظلم وتصفية وإبادة وتعذيب واضطهاد للمؤمنين على يد جلاوزة البعث من فئة صدام، ممّا لا يقوى على وصفه التعبير. ... أقول إنّ الذي يجري من الظلم في أقطار العالم الإسلامي على المسلمين، في كلّ مكان تقريباً، أمر رهيب يدلّ على شيء أكثر من الظلم والجور ومن (امتلاء الأرض ظلماً وجوراً)، إنّه يدلّ، ومن دون مؤاخذة، على نضوب نبع الضمير في الأُسرة الدولية المعاصرة، وفي الحضارة البشرية المادية المعاصرة.
ونضوب الضمير مؤشّر خطر في تاريخ الإنسان يعقبه دائماً السقوط الحضاري الذي يعبّر عنه القرآن بـ (هلاك الأُمم).
و(الضمير) حاجة أساسية ورئيسية للإنسان، وكما لا يمكن أن يعيش من دون (الأمن)، ومن دون (الطبّ والعلاج)، ومن دون (الغذاء)، ومن دون (النظام السياسي)، ومن دون (العلم)، كذلك لا يمكن أن يعيش من دون الضمير، ومتى آل أمر هذا النبع إلى النضوب، فإنّ السقوط الحضاري هو النتيجة الطبيعية لهذه الحالة، وبعد السقوط يأتي قانون (الاستبدال) و(التبديل) و(الإرث)، وهذه هي حالة قيام ثورة الإمام (عليه السلام) الكونية وقيام الدولة العالمية الشاملة.
٣ - وقد كانت غيبة الإمام (عليه السلام) بسبب طغيان الشرّ والفساد والظلم، ولولا ذلك لم يغبّ، فكيف يكون طغيان الفساد والظلم سبباً لظهور الإمام (عليه السلام) وخروجه؟
٤ - وبعكس ما يتوقعه بعض الناس يتّجه العالم اليوم باتجاه سقوط المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية الظالمة. فقد شاهدنا بأعيننا كيف سقط الاتحاد السوفيتي خلال بضعة أشهر، وكان مثله مثل بناء خاو، منخور من الداخل لم يتمكن أحد من دعمه وإسناده عند سقوطه.
ورياح التغيير اليوم تهب على أمريكا وتعرّضها لهزّات عنيفة وقويّة في اقتصادها وأمنها وأخلاقها ومصداقيتها، بوصفها دولة كبرى.
إنّ النظام الجاهلي اليوم آخذ بالعدّ العكسي مؤذناً بالسقوط والانهيار، فكيف نتوقع أن لا يزداد هذا النظام قوّة وشراسة وضراوة؟
٥ - على أنّ الذي يوجد في نصوص الغيبة: (يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً). وليس (بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً).
وليس معنى ذلك أنّ الإمام ينتظر أن يطغى الفساد والظلم أكثر ممّا ظهر إلى اليوم ليظهر، وإنّما معنى النصّ أنّ الإمام (عليه السلام) إذا ظهر يملأ الأرض عدلاً، ويكافح الظلم والفساد في المجتمع، حتّى يطهّر المجتمع البشري منه كما امتلأ المجتمع البشري بالظلم والفساد من قبل.
روى الأعمش، عن أبي وائل، أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في المهدي (عليه السلام): (يخرج على حين غفلة من الناس وإقامة من الحقّ وإظهار من الجور، يفرح لخروجه أهلُ السماء وسكانها، ويملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً)(١٠) وفي رواية أُخرى: (يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً)(١١).
وفي رأيّي أنّ معنى جملة: (تُملأ الأرض ظلماً وجوراً) أن يكثر الظلم والجور حتّى يضجّ الناس منه، ويفقد الظلم غطاءه الإعلامي الذي يخرجه للناس إخراجاً حسناً، فيبرز للناس في صورته الحقيقية، وتفشل هذه الأنظمة في تحقيق ما تعد الناس به من خير، ويبدأ الناس بعد هذا الإحباط الواسع بالبحث عن النظام الإلهي الذي ينقذهم من هذه الإحباطات، وعن القائد الربّاني الذي يأخذ بأيديهم إلى الله تعالى. وقد بدأت تتعاقب الإحباطات المتوالية في حياه الناس واحدة بعد أُخرى، وكان أعظم هذه الإحباطات سقوط الاتحاد السوفيتي والهزات العنيفة التي تعرّضت لها أمريكا في السنوات الأخيرة، وكلّ واحد من هذه الإحباطات يوجّه الناس إلى النظام الإلهي والقائد الربّاني المنقذ.
هذا، على نحو الإجمال نقد الرأي الأوّل في أسباب تأخير الفرج. والآن نبحث في الرأي الثاني.

الرأي الثاني في أسباب تأخير الفرج
يعتمد الرأي الثاني، في فهم أسباب تأخير الفرج وتأخير ظهور الإمام، الأسباب الموضوعية، وفي مقدمتها عدم وجود العدد الكافي من الأنصار من الناحية الكمية، وعدم وجود الكيفية المطلوبة في أنصار الإمام وشيعته من الناحية الكيفية. إنّ الثورة التي يقودها الإمام ثورة كونيه شاملة، يتولّى فيها المستضعفون والمحرومون الإمامة والقيمومة على المجتمع البشري: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)(١٢).
يرثُ المستضعفون المؤمنون، في هذه المرحلة، ما كان يتداوله الطغاة في ما بينهم من السلطان والمال: (وَنَجْعَلَهُمْ أَئمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)، ويتم لهم السلطان على وجه الأرض (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الاَْرْضِ)(١٣)، ويطهّر الإمام في هذه المرحلة الأرض كلّها من لوثة الشّرك والظلم (يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً)، ولا يبقى، كما في طائفة من الروايات، في المشارق والمغارب، أرض لا يؤدّى فيها لا إله إلاّ الله.
ومحور هذه الثورة الشاملة (التوحيد) و(العدل). ومثل هذه الثورة لابدّ لها من إعداد واسع، وتوطئة على مستوى عال من الناحيتين الكمية والكيفية، ومن دون هذا الإعداد وهذه التوطئة لا يمكن أن تتم هذه الثورة الشاملة، في سنن الله تعالى في التاريخ.

دور السُّنن الإلهية والإمداد الغيبي في الثورة:
لا تتم الثورة، في مواجهة العُتاة والطغاة والأنظمة والمؤسسات الجاهلية الحاكمة والمتسلّطة على رقاب الناس، من دون إمداد غيبي وإسناد وتأييد من جانب الله بالتأكيد. والنصوص الإسلاميّة تؤكّد وجود هذا الإمداد الإلهي وتصف كيفيته.
إلاّ أنّ هذا المددّ الإلهي أحد طرفي هذه القضية والطرف الآخر هو دور السُّنن الإلهية في التاريخ والمجتمع في تحقيق هذه الثورة الكونية وتطويرها وإكمالها. فإنّ هذه السُّنن لا تتبدّل ولا تتغيّر (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)(١٤) ولا تعارض المدَدَ والإسناد الإلهيّين. وشأن هذه الثورة شأن دعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى التوحيد، والحركة التي نهض بها (صلى الله عليه وآله) لتحقيق التوحيد في حياة الناس. فقد كانت هذه الحركة موضع الإمداد الإلهي الغيبي بالتأكيد. ونَصَرَ الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وآله) بالملائكة المسوَّمين والمردفين والرياح، وجُند لم يروهم، ونَصَرهُ على أعدائه بالرُّعب، ولكنّ الله تعالى أمر رسوله (صلى الله عليه وآله) بأن يعد العدّة لهذه المعركة المصيرية: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة)(١٥).
وتمّت مراحل هذه المعركة بموجب سنن الله تعالى في التاريخ والمجتمع، ينتصر فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أعدائه حيناً وينتكس حيناً آخر، ويستخدم الجُند والمال والسلاح في هذه المعركة، ويُخطّط لها، ويفاجئ العدوّ بوسائل وأساليب جديدة للقتال، ويفاجئه في الزمان والمكان، ولا يعارض شيء من ذلك الإمداد الغيبي الإلهي لرسوله (صلى الله عليه وآله) الذي لا نشكّ فيه، وهما وجهان لقضية واحدة.
ولا تشذّ الثورة الكونية التي يقودها حفيده (عجّ) عن الدعوة والثورة التي قادها هو (صلى الله عليه وآله)، من قبل، بأمر من الله تعالى.
ومن جملة هذه السُّنن التي لابدّ منها، في هذه الثورة الكونية (الإعداد) و(التوطئة) قبل ظهور الإمام و(النصرة) و(الأنصار) حين ظهور الإمام (عليه السلام)، ومن دون هذا الإعداد والنصرة والتوطئة لا يمكن أن تتم ثورة بهذا الحجم الكبير في تاريخ الإنسان.
ونحن، في ما يلي، نستعرض طائفتين من النصوص تختصّ أُولاهما بـ (الإعداد والتّوطئة) والأُخرى بـ (الأنصار والنصرة) لنتأمل فيهما إن شاء الله.
والطائفة الأُولى من النصوص هي النصوص المتعلقة بـ (الموطِّئين)، وهم الجيل الذي يعدّ الأرض والمجتمع لظهور الإمام (عج)، وثورته الكونية الشاملة. وهذا الجيل بطبيعته يسبق ظهور الإمام (عليه السلام)، والطائفة الثانية من النصوص تخصّ (الأنصار)، وهم الجيل الذي ينهض بهم الإمام (عليه السلام). ويقود بهم الثورة على الظالمين. إذن نحن بين يديّ جيلين:
١ - جيل (الموطِّئين) الذين يمهّدون الأرض لظهور الإمام.
٢ - جيل (الأنصار) الذين ينهض بهم الإمام (عليه السلام)، ويثور بهم على الظالمين. وفي ما يلي نستعرض، إن شاء الله، هاتين الطائفتين من النصوص.

جيل (الموطِّئين) في النصوص الإسلاميّة
تضافرت طائفة من النصوص الإسلاميّة، من الفريقين (الشيعة والسنّة)، عن جيل الموطّئين الذين يوطّئون الأرض لدولة الإمام المهدي (عج)، وقد حدّدت هذه النصوص عدداً من الأقاليم الإسلامية المعروفة لهذا الجيل، وأهم هذه الأقاليم التي تخصّ جيل الموطّئين هي: المشرق وخراسان (ويظهر أنّ المشرق هو خراسان) وقم، والري، واليمن، وفي ما يلي النصوص التي تخصّ جيل الموطّئين في هذه الأقاليم.
١ - الموطّئون في المشرق
روى الحاكم، في المستدرك على الصحيحين، عن عبد الله بن مسعود، قال: أتانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخرج إلينا مستبشراً يُعرف السرور في وجهه، فما سألناه عن شيء إلاّ أخبرنا به، ولا سكتنا إلاّ ابتدأنا حتّى مرّ فتية من بني هاشم منهم: الحسن والحسين، فلمّا رآهم التزمهم وانهملت عيناه، فقلنا: يا رسول الله، ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه؟
فقال: (إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّه سيلقى أهل بيتي من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد حتّى ترتفع رايات سودٌ في المشرق، فيسألون الحقّ لا يعطونه، ثُمَّ يسألونه فلا يعطونه، ثُمَّ يسألونه فلا يعطونه - فيقاتلون - فيُنصرون. فمن أدركه منكم ومن أعقابكم فليأت إمام أهل بيتي، ولو حبواً على الثلج، فإنّها رايات هدى، يدفعونها إلى رجل من أهل بيتي)(١٦).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (كأنّي بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحقّ فلا يعطونه ثُمَّ يطلبونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما شاءوا فلا يقبلونه حتّى يقوموا ولا يدفعونها إلاّ إلى صاحبكم (أي الإمام المهدي (عليه السلام)) قتلاهم شهداء...)(١٧).
٢ - الموطّئون من خراسان
عن محمّد بن الحنفية، والرواية موضوعة، ولكن يبدو أنّها عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): (ثُمَّ تخرج راية من خراسان يهزمون أصحاب السفياني حتّى تنزل ببيت المقدس توطئ للمهدي سلطانه)(١٨).
٣ - الموطّئون من (قم) و(الري)
روى المجلسي في بحار الأنوار: (رجل من قم يدعو الناس إلى الحقّ يجتمع معه قوم قلوبهم كزبر الحديد، لا تزلّهم الرياح العواصف، لا يملّون من الحرب ولا يجبنون وعلى الله يتوكّلون والعاقبة للمُتّقين)(١٩).
٤ - الموطّئون من اليمن
عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قيادة اليماني قبل ظهور الإمام: (وليس في الرايات أهدى من راية اليماني، هي راية هدى، لأنّه يدعو إلى صاحبكم)(٢٠).

الدلالات:
١ - الجيل الصلب
وأوّل ما يلفت النظر في هذا الجيل هو الصّلابة والقوّة والاستحكام، فهو جيل صعب، شديد المراس، يوطّئ الأرض لظهور الإمام، ويواجه وحده طواغيت الأرض. والإمام الصادق (عليه السلام) يُفسّر، كما في رواية محمّد بن يعقوب الكُليني قوله تعالى: (فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِي بَأْس شَدِيد)(٢١١). بهذا الجيل، وتصفهم الرواية بهذا الوصف العجيب: (قلوبهم كزُبر الحديد، لا تزلّهم الرياح العواصف)...
إنّها قلوب ومن طبيعة القلوب اللين والرقة، ولكنّ هذه القلوب تتحول في مواجهة الطغاة والعتاة إلى زبر من الحديد لا تلين ولا ترق. إنّ الصّلابة وبالقوة من خصائص الأجيال التي يحمّلها الله تعالى مسؤولية التغيير، والثورة، ومن خصائص الأجيال التي يضعها الله تعالى في منعطفات التاريخ الكبرى لنقل الناس من مرحلة إلى مرحلة، وهذا الجيل يحمل هذه الخصائص.

٢ - جيل التحدّي والتمرّد
ومهمة هذا الجيل هي تحدّي (النظام العالمي) والتمرّد عليه، وما أدراك ما النظام العالمي وكيف صمّم على خدمة القوى الكبرى، ومن دار في فلكها والاحتفاظ بمراكز القوّة والمواقع الاستراتيجية لها في مختلف مناطق الأرض. إنّها مسؤولية شاقّة وعسيرة ودقيقة يتعهّد بها هذا النظام على مستوى العالم كلّه، وليس على مستوى منطقة أو إقليم من الأرض فحسب.
إنّ هذا النظام يتكوّن من مجموعة من المعادلات والموازنات السياسية والاقتصادية والعسكرية والإعلامية الدقيقة، ومن أنظمة أعضاء الأُسرة الدولية ومن مجموعة من الخطوط الحمراء والخضراء والصفراء فيما بين هذه الأنظمة وهذه المجموعة من الاتفاقات والتنازلات وتنظيم الأدوار واقتسام الموارد والأسواق ومصادر الثروة ومناطق النفوذ.
أقول: إنّ هذه المجموعة المعقّدة تمكّن القوى الكبرى من السيطرة على الوضع العالمي، كما تمكّن العتلة الصغيرة (العصا الضخمة من حديد تستخدم في أعمال الهدم والحمل)، أي الإنسان، من حمل الأثقال الكبيرة بحركة خفيفة. ولذلك فإنّ النظام العالمي قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، وبعد ذلك، يبقى أمراً يحترمه الجميع، لأنّ هؤلاء يستفيدون منه كلٌّ بمقدار حجمه وقوّته... وهؤلاء الشباب من جيل الموطّئين يخترقون ببساطة ومن دون تردّد هذه الخطوط الحمراء، ويغيّرون هذه لمعادلات والموازنات التي يتفاهم عليها الجميع ويتلقونها بالقبول والاحترام، ويفسدون على هذه الأنظمة والمؤسسات الدولية استقرارها وتوازنها وهيبتها الدولية. ولا سبيل لها على هؤلاء الشباب، ولا تستطيع أن تتحملهم ولا تتمكن من أن تدفعهم. فإنّ أكثر قوة هذه الأنظمة وهيبتها الدولية في مواجهة أنظمة ومؤسسات من مثلها، وأقوى ما تملك من السلاح هو القتل والسجن والتعذيب والمطاردة.
وهؤلاء لا يخافون شيئاً من ذلك ولا يرهبهم شيء من ذلك.
والوصف الموجود في الرواية دقيق. في وصف هذا الجيل:
(لا تزلّهم الرياح العواصف، لا يملّون من الحرب ولا يجبنون وعلى الله يتوكلون والعاقبة للمُتّقين). إنّ الذي لا يجبن لا يملّ الحرب، ولا تزلّه الرياح العواصف بطبيعة الحال. وقوة هؤلاء وميزتهم أنّهم لا يجبنون، وهذه هي مشكلتهم في حساب الأنظمة والقوى الكبرى.
في موسم الانتخابات العامة للرئاسة الأمريكية، في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق، جرى حوار تلفزيوني ضمن النشاط الإعلامي الذي يقوم به عادة المرشّحون للرئاسة الأمريكية، بين الرئيس الأمريكي الأسبق كارتر والمرشح الآخر المنافس له على الرئاسة، فقال له هذا الأخير: إنّ أمريكا خسرت الكثير من هيبتها الدولية في حادث تفجير مقرّ القوات البحرية الأمريكية في بيروت (المارينز) وتتحمل أنت - مخاطباً الرئيس الأمريكي - مباشرة مسؤولية هذه الخسارة بالكامل، فقال له الرئيس الأمريكي بالحرف الواحد: وماذا تراني قادراً أن أفعل في مواجهة إنسان جاء هو ليطلب الموت؟! إنّ أقصى ما نتمكن منه أن نردع الناس بالرّعب والإرهاب من أمثال ذلك، فإذا كان الذي يقوم على هذا التفجير هو من يطلب الموت ويلقي بنفسه على الموت فماذا تراني قادراً أن أفعل في ردعه؟ وماذا كنت تفعل أنت لو كنت في مثل موقعي في هذا الظرف؟!
هذه هي بعض ملامح جيل التحدي الذي برز في مواجهة الأنظمة والقوى الكبرى في العراق وإيران وأفغانستان ولبنان وفلسطين والجزائر ومصر والسودان، وأخيراً في الشيشان والبوسنة والهرسك.
عجيب أمر هذا الجيل، يسبّ جلاديه ويشتمهم، وهو في قبضتهم وتحت سلطانهم وسياطهم، يصبّون عليه العذاب صبّاً فلا ينثني أبناؤه، ولا يلينون ولا يئنون ولا يصرخون. وإنّ أحدهم ليقول لجلاديه، وهم يعذبونه بما لا يعلم إلاّ الله من فنون التعذيب: سوف أُبقي في نفسك حسرة أن تسمع منّي صرخة تألُّم أو أنين أو توجّع.

٣ - ردود الفعل العالمية:
وردود الفعل العالمية تجاه هذا الجيل، كما تصرّح به هذه النصوص، ردود فعل غاضبة وساخطة، لأنّ هذا الجيل يعرّض هذه المعادلات والموازنات لهزّات عنيفة وحقيقية، ولذلك فإنّ ردود الفعل العالمية تجاهه تتّسم بالغضب والسخط دائماً.
روي عن أبان بن تغلب عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا ظهرت راية الحقّ لعنها أهل الشرق وأهل الغرب. أتدري لم ذلك؟ قلت: لا. قال: للذي يلقى الناس من أهل بيته قبل ظهوره)(٢٢).
وأهل بيته قبل ظهوره، عادة، هم الموطّئون الذين يُثيرون المتاعب لهذه الأنظمة والمؤسسات ويسلبون استقرارها وراحتها.
وروى ثقة الإسلام الكليني في الكافي (كتاب الروضة) في تفسير قوله تعالى: (وَبَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْس شَدِيد...)(٢٣٣)، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قوم يبعثهم الله قبل خروج القائم فلا يدعون واتراً لآل محمد، إلاّ قتلوه).
وردود الأفعال العالمية، المذكورة في هذه النصوص، تشبه إلى حدّ كبير ردود الأفعال العالمية اليوم تجاه الصحوة الإسلامية التي يسمونها بـ (الأُصولية الإسلاميّة)، وينعتونها بالإرهاب وبأقسى النعوت.
مشروع التوطئة:
توطئة الأرض لثورة الإمام (عجّل الله تعالى فرجه) مهمة واسعة وكبيرة، ومعقّدة ينهض بها هذا الجيل في مواجهة عُتاة الأرض وطغاتها المستكبرين وأئمة الكفر.. وهؤلاء العتاة يعدّون جميعاً جبهة سياسية عريضة، رغم كلّ التناقضات القائمة فيما بينهم، وهي جبهة تملك الكثير من أسباب القوة من المال والسلطان السياسي والجيش والإعلام والعلاقات والنُظم، وتستخدم جميع هذه الأسباب في ضرب الصحوة الإسلامية الناشئة وإجهاضها. ولا بدّ لهذا الجيل الذي ينهض بمشروع إعداد الأرض لظهور الإمام من أن يواجه هذه القوّة بالآلية نفسها التي تستخدمها جبهة الاستكبار العالمية وتزيد عليها بالتربية الإيمانية والجهادية والتوعية السياسية. وعليه فإنّ مشروع التوطئة الذي ينهض به جيل الموطئين يتكون من بُعدين:
البُعد الأوّل
التربية الإيمانية والجهادية والتوعية السياسية، وهذا ما تفقده الجبهة المقابلة
البُعد الثاني
الآلية السياسية والعسكرية والاقتصادية والإدارية والإعلامية التي لابدّ منها في مثل هذه المعركة.
وليس من شكٍّ في أنّ الفئة المؤمنة التي تعدّ الأرض لظهور الإمام لابدّ لها من إعداد هذه القوّة، وإن كانت لا تستطيع أن تكافئ الجبهة العالمية المضادة. وهذه الآلية السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية لا تتحقق من غير وجود نظام سياسي ودولة على وجه الأرض. وهذه هي دولة الموطّئين التي وردت الروايات بالتبشير بها كثيراً. ولابدّ ليقرب ظهور الإمام من تحقيق هذه القوة على وجه الأرض، ومن دون ذلك لا تتهيأ الأسباب الطبيعية لظهور الإمام... والإعداد لهذه القوة يحتاج إلى عمل وحركة في واقع الحياة ولا يغني (الرصد) و(الانتظار) عنها شيئاً.

جيل الأنصار في الروايات الإسلامية
جيل الموطّئين يسبق جيل الأنصار، وأفراد هذا الجيل هم تلامذة الجيل الذي يسبقهم، ويتميزون منه بمزايا وقيّم يتفرّدون بها. ونحن سوف نستعرض النصوص الواردة في نموذج واحد فقط من هذا الجيل، وهو شباب (الطالقان) هذه الروايات وردت بأسانيد الفريقين: السنّة والشيعة وطرقهم.

شباب الطالقان
وسوف نستعرض الروايات التي رواها المحدّثون، من السنّة والشيعة، والمتعلّقة بـ (شباب الطالقان).
روى المُتّقي الهندي في (كنز العمّال) والسّيوطي في (الحاوي) في أنصار الإمام من (الطالقان): (ويحاً للطالقان، فإنّ لله عزّ وجلّ بها كنوزاً ليست من ذهب ولا فضة، ولكن بها رجال عرفوا الله حقّ معرفته وهم أنصار المهدي)(٢٤).
وفي ينابيع المودّة للقندوزي: (بخ بخ للطالقان)(٢٥).
روى المجلسي في بحار الأنوار: (كنز بالطالقان ما هو بذهب ولا فضة، وراية لم تنشر مُذّ طويت، ورجال كأنّ قلوبهم زُبر الحديد لا يشوبها شكٌّ في ذات الله أشدُّ من الجمر، لو حملوا على الجبال لأزالوها. لا يقصدون براياتهم بلدة إلاّ خرّبوها كأنّ خيولهم العقبان، يتمسّحون بسرج الإمام يطلبون بذلك البركة، ويحفون به ويقوّنه بأنفسهم في الحروب، يبيتون قياماً على أطرافهم ويُصبحون على خيولهم.
رُهبان بالليل ليوث بالنهار. هم أطوّع من الأَمَة لسيّدها، كالمصابيح كأنّ في قلوبهم القناديل وهم من خشيته مشفقون. يدعون بالشهادة ويتمنون أن يُقتلوا في سبيل الله. شعارهم: يا لثارات الحسين، إذا ساروا يسير الرعب أمامهم مسيرة شهر، يمشون إلى المولى إرسالاً، بهم ينصر الله إمام الحقّ)(٢٦).

أصحاب الإمام شباب
والروايات تشير إلى أنّ الغالب من أصحاب الإمام من الشباب ولا يوجد فيهم من الكهول والشيوخ إلاّ نادراً.
روى المجلسي في البحار: (أصحاب المهدي شباب لا كهول، فيهم إلاّ كمثل كحل العين)(٢٧).

عدد قادة أنصار الإمام
روى المجلسي في بحار الأنوار: (فيجمع الله عليه أصحابه، وهم ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً، ويجمعهم عليه على غير ميعاد فيبايعونه بين الركن والمقام، ومعه عهد من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد توارثته الأبناء عن الآباء)(٢٨).
وفي أغلب الروايات أنّ هذا العدد الذي يبايع الإمام، بين الركن والمقام، هو عدد قادة جيش الإمام (عج).

الدلالات والتأمّلات:
ولابدّ من أن نشير، قبل أن ندخل في التأملات والدلالات، إلى أنّ اللغة المألوفة وقت صدورها لغة رمزية، فالسيوف هي الأسلحة، والخيول هي مراكب القتال، كما أنّ الوصف بـ (رهبان بالَّليل ليوث بالنّهار) تعبير رمزي ومجازي من العباده والتهجّد في الليل والشجاعة والجرأة في النهار.
وهذه لغة معروفة لِمَن يألف طريقة التعبير في النصوص والروايات الإسلاميّة، والآن نبدأ بالحديث عن الدلالات والتأمّلات في هذه الروايات.

١ - كنوز ليست من ذهب ولا فضّة
أنصار الإمام كنوز، والكنز هو الثروة المخبوءة يجهل الناس مكانها، وقد يكون الكنز في بيت الإنسان وتحت قدميه أو في أرض مجاورة لبيته أو في مدينته، ولكنّه يجهله وأنصار الإمام كنوز مُخبّأة، قد يكون أحدهم في بيت أحدنا أو بجواره أو في مدينته، وهو لا يعرفه وقد يزدريه، وتحتقره عيون الناس التي لا تعرف أن تنفذ إلى الأعماق لتعرف الكنوز، إنّ هذه البصيرة واليقين والإقبال على الله والشجاعة والجرأة والذوبان في ذات الله التي يتّصف بها هؤلاء لا تتكون دفعة بل كانت موجودة في نفوس هؤلاء الشباب، إلاّ أنّها كانت خافية عن أعين الناس، كما تختفي الكنوز عن العيون.

٢ - القوّة والوعي
يقول تعالى، في صفة عباده الصالحين إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام): (وَاذْكُرْ عِبَدَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الاَْيْدِي وَالاَْبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَة ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاَْخْيَارِ)(٢٩). وهذا من أروع الوصف.
فإنّه لابدّ للبصيرة من قوّة، ومن دون القوّة تضيع البصيرة وتخمد ولا يحمل البصيرة إلاّ المؤمن القوي، فإذا ضعف فقد البصيرة، ولابدّ للقوة من بصيرة، فإنّ القوّة من دون بصيرة تتحول إلى لجاج وعناد واستكبار، ويصف الله تعالى إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) بأنهم أُولي (الأيدي) و(الأبصار) أي القوّة والبصيرة.
وتُشير النصوص التي قرأنا طائفة منها قريباً أنّ أنصار المهدي (عليه السلام) أولو الأيدي والأبصار.
٣ - الوعي والبصيرة:
وتعبير الرواية عن حالة الوعي والبصيرة لدى أنصار الإمام، تعبير عجيب (كالمصابيح كأنّ في قلوبهم القناديل) وهل يمكن أن يخترق الظلام القنديل؟ قد يحاصر الظلام القناديل ولكنّه لا يستطيع أن يخترقها.
وأنصار الإمام لا ينفذ إلى نفوسهم ووعيهم الشكّ والريب، مهما تكاثفت ظلماتهما ومهما تعاقبت الفتن. لذلك لا يدخلهم الشكّ ولا يتردّدون ولا يتراجعون ولا ينظرون وراءهم إذا مضوا في الطريق، والتعبير في الرواية: (لا يشوبها شكّ في ذات الله) هو أمر غير الشكّ، إنّه خليط من الشكّ واليقين، أو لحظات من الشكّ تخترق حالات اليقين ولا تثبت لليقين الذي يهزمها، وهذا أمر يحصل للكثير من المؤمنين، إلاّ أنّ أنصار الإمام لا يشوب يقينهم شكّ، يقين خالص من دون شائبة من الشكّ والريب.

٤ - عزم نافذ
وهذه البصيرة تمنحهم عزماً نافذاً لا تردّد ولا تراجع فيه، والتعبير عن هذا العزم بـ (الجمر) تعبير رائع ومُعبّر، فإنّ الجمر ينفذ ويخترق ما دام ملتهباً، والتعبير هكذا (أشدّ من الجمر) هو أروع تعبير أعرفه عن نفوذ العزم، ولستُ أدري ما أودعَ الله تعالى في نفوس شباب الطالقان من كنوز الوعي واليقين والعزم والقوّة، فإنّ التعبيرات الواردة في هذا النصّ تعابير غير مألوفة كأنّ الحديث عنهم حديث وَجدٌ وهيام (زُبر الحديد كالمصابيح، كأنّ في قلوبهم القناديل، أشدّ من الجمر، رهبان باللّيل ليوث بالنّهار) وكأنّ النصّ يستفرغ كلّ ما في وسع اللغة لتتمكن من التعبير عن وعي هؤلاء الشباب وبصيرتهم وقوتهم ونفوذ عزمهم.

٥ - القوّة
ويصف النصّ شباب الطالقان بقوة هائلة لا عهد لنا بها في مَنْ نعرف من الشباب. تأمّلوا هذه العبارة: (كأنّ قلوبهم زُبر الحديد).
أرأيت أحداً يتمكّن من أن يصهر أو يكسر أو يلين زُبر الحديد بقبضة يده؟ (لو حملوا على الجبال لأزالوها، لا يقصدون براياتهم بلدة إلاّ خرّبوها كأنّ على خيولهم العقبان).
هذه تعابير عجيبة تُنبئ عن قوة هائلة، وهذه القوة ليست من نوع القوة التي يملكها طواغيت الأرض، وإنّما هي قوة عزم وإرادة وقوّة يقين.
٦ - الاستماتة وحبّ الشهادة
(يدعون بالشهادة ويتمنّون أن يُقتلوا في سبيل الله). إنّ الموت الذي يرعب الشيوخ في التسعينات، وبعد المئة من أعمارهم، وقد فقدوا جميع لذات الحياة وشهواتها...
أقول: إنّ الموت الذي يرعب الشيوخ يهيم به هؤلاء الشباب وهم في غضاضة العمر، وحبّ الشهادة ينبغ من أمرين ويُنتج أمرين في حياة الناس.
أمّا الأمران اللّذان هما مصدر حبّ الشهادة في النفس فهما الإعراض عن الدنيا والإقبال على الله، فإذا كافح الإنسان حبّ الدنيا في قلبه وأزال منه التعلّق والاغترار بها فقد قطع الشوط الأوّل من الطريق وهو أشقّ الشوطين. والشوط الآخر هو أنْ يتعلق القلب بحبّ الله تعالى ويُهيم بذكره وحبّه، وينصرف صاحبه إلى الله تعالى بكلِّ قلبه ووجهه، وهؤلاء لا يهمهم من أمر الدنيا شيء، يعيشون مع الآخرين في الدنيا ويحضرون معهم الأسواق والاجتماعات غير أنّهم غائبون عنها بقلوبهم، ويصدق فيهم الحاضر الغائب، هؤلاء المستميتون الذين يُحبّون الموت الذي يُخيف الناس، ويدعون بالشهادة ويجدون فيها لقاء الله ويشتاقون إليها، كما يشتاق الناس إلى لذاتهم في الدنيا، أو أعظم من شوق الناس إلى لذاتهم من الدنيا.
وقليل من الناس مَن يفهم هؤلاء، أمّا الناس في الغرب فلا سبيل لهم إلى أن يفهموهم.. فهم يصفونهم حيناً بالانتحاريين، والمنتحر هو الذي يملُّ الدنيا وينتهي فيها إلى طريق مسدود، وهؤلاء الشباب يجدون أبواب الدنيا أمامهم مفتوحة، تضحك لهم الدنيا وتظلّل عليهم بكلِّ بهجتها وزينتها وإغرائها. فلم يملّوا الدنيا لم يصلوا فيها إلى طريق مسدود، وإنّما أعرضوا عنها، لأنّهم اشتاقوا إلى لقاء الله، ويصفونهم بالإرهاب، وهؤلاء ليسوا بإرهابيين، ولو قالوا: إنّهم لا يخافون الإرهاب لكانوا أقرب إلى الواقع.
وهذان هما مصدر حبّ الشهادة والقتل في سبيل الله. أمّا الذي ينتج عن حبّ الشهادة فهو العزم والقوّة، إنّ المُستميت الذي تمكّن من أن يُحرّر نفسه من الدنيا يجد في نفسه من العزم والقوّة ما لا يجده سائر الناس.
وهذان، أي العزم والقوّة، لا علاقة لهما بما في أيدي الناس من الجبهة الاُخرى من أسباب القوّة المادية، من دون أن ننفي ضرورة تلك الأسباب وأهميتها في ظهور الإمام وقرب الفرج.

٧ - تعادل الشخصية
(ليوث باللّيل رهبان بالنهار). من أبرز معالم هذا الجيل التعادل في الشخصية، وهذا سرّ قوّتهم ونفوذهم، تعادل بين الدنيا والآخرة. وتعادل بين القوّة والبصيرة. والله تعالى يحبُّ هذه الموازنة والتعادل، ويكره الإفراط والتفريط والجنوح إلى اليمين واليسار. يقول تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(٣٠).
ويقول تعالى في ما يعلّمنا من الدعاء: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاْخِرَةِ حَسَنَةً)(٣١).
ويقول تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ا لْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا)(٣٢).
ومن هذه الموازنة التعادل بين الخشوع والعبودية لله والتذلّل للمؤمنين والصرامة والقوة مع الكافرين: (أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ)(٣٣)، ومن هذه الموازنة التعادل بين الاتّكال على الله والجهد والعمل والتخطيط. ويصف أمير المؤمنين (عليه السلام) لهمّام (رحمه الله)، كما في رواية الشريف الرّضي، أطرافاً من هذه الموازنة والتعادل في شخصية (المُتّقين)، فيقول:
(فمن علامة أحدهم أنّك ترى له قوة في دين، وحزماً في لين، وعلماً في حلم، وقصداً في غنى، وتجمّلاً في فاقة، وصبراً في شدّة، يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يبيت حذراً ويصبح فرحاً، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، في الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور، نفسه منه في عناء، والناس منه في راحة)(٣٤). وهذه الموازنة من الملامح الواضحة في شخصية أنصار الإمام.

٨ - رهبان باللّيل ليوث بالنّهار
وإلى هذه الموازنة تشير الرواية (رهبان باللّيل ليوث بالنّهار). وللّيل والنهار دوران مختلفان في بناء شخصية الإنسان. ولكنّ هذين الدّورين متكاملان يكمّل أحدهما الآخر ولا بدّ منهما معاً في بناء شخصية الإنسان المؤمن الداعية والمجاهد، فلولا قيام اللّيل لم يثبت الإنسان في مواجهة العقبات الصعبة في النهار، ولم يتمكن من مواصلة الحركة على طريق ذات الشوكة في النهار. ولولا حركة النهار لعزل اللّيل صاحبه من القيام برسالة الدعوة إلى الله في وسط المجتمع، وفقد الإنسان دوره الثاني في الحياة الدنيا بعد عبودية الله، وهو الدعوة إلى عبودية الله.
وفي القرآن تأكيد على دور الليل في إعداد الإنسان للدعوة إلى الله واهتمام به. ومن أوائل ما نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، في بدء الدعوة والوحي، سورة المُزَّمِّل المباركة التي يدعو الله تعالى فيها نبيّه إلى أن يعدّ نفسه في اللّيل إعداداً لتحمُّل القول الثقيل في النهار. يقول مخاطباً نبيّه: (يَا أَيُّهَا ا لْمُزَّمِّلُ* قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً* نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ ا لْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً* إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً* إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً* إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً)(٣٥).
والتعبير عن الّليل بالنَّشئة دقيق ومعبّر، فإنَّه ينشىء الإنسان الذي يقيمه إنشاءً ويصنعه صنعاً للأعمال الصعبة ويوطّئ شخصيّته ويعدّها إعداداً للمهام الكبيرة ويقوّم سلوكه. وقوله (قيلاً) يعني تقويماً: (إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً). وفي خطبة المُتّقين يصف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لهمَّام(رحمه الله)، كما في رواية الشريف الرّضي، شطري حياة المُتّقين وهما الّليل والنهار فاستمع إليه:
(أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يتلونه ترتيلاً، يحزِّنون به أنفسهم يستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم. وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم. أمّا النّهار فحلماء علماء أبرار أتّقياء، قد براهم الخوف بري القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، ويقول: لقد خُولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم).
إنّ اللّيل والنّهار شطرا حياة الإنسان وهما يتكاملان، ولليل رجال ودولة وللنّهار رجال ودولة، ورجال النهار تنقصهم دولة اللّيل، ورجال اللّيل تنقصهم دولة النّهار في الدّعوة إلى الله وإقامة الحقّ وتعبيد الناس لله، وأنصار الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) رجال اللّيل والنّهار، وآتاهم اللّه دولة اللّيل والنّهار.
سمة العبيد من الخشوع عليهم * * * لله إن ضمّتهم الأسحار
فإذا ترجّلت الضحى شهدت لهم * * * بيض القواضب أنّهم أحرار
ولولا أنّهم رجال دولة اللّيل لم يتمكّنوا من مواجهة طغاة الأرض بمفردهم، ولولا أنّهم رجال النّهار لم يتمكّنوا من تطهير الأرض من لوثة الشّرك وإقامة التوحيد والعدل على وجه الأرض، ولو لم يكونوا من رجال النّهار لم يحكّموا التوحيد والعدل في حياة الناس. ولو لم يكونوا من رجال اللّيل لأخذهم الغرور وشطّ بهم عن الصّراط المستقيم.

مرحلتان أم جيلان
إذن نحن أمام جيلين، أوّلهما جيل يشهد سقوط التجربة الاشتراكية الماركسية، والتجربة الديمقراطية الرأسمالية وانهيارهما ويوطّئ الأرض لظهور الإمام (عجّل الله فرجه)، وهو (جيل الموطِّئين)، وثانيهما (جيل الأنصار). هل هما جيلان فقط أم جيلان ومرحلتان من التاريخ؟ لست أعلم، ولكنّ من المُستبعد أن يتمّ هذا العمل العظيم في جيل واحد.

واجبات مرحلة (الانتظار) ومسؤلياتها:
نحن الآن نعيش في مرحلة (الانتظار)، وقد تكون أطول مرحلة في تاريخ الإسلام، فما هي أهم واجباتها ومسؤولياتها؟ في ما يأتي عرض موجز لتلك الواجبات والمسؤوليات:

أوّلاً (الوعي)
والوعي على أنحاء:
أ - وعي التوحيد: وأنّ الكون كلّه من الله وكلّ شيء مسخّر بأمره، وهو قادر على كلّ شيء، وكلّ شيء في السّماء والأرض جُند مُسخّر له لا يملك من أمره شيئاً.
ب - وعي وعد الله وسط الأجواء السياسيّة الضاغطة: وفي مرحلة الضعف والانحسار، وفي أجواء النكسة. وإنّ من أشقّ الأُمور في مثل هذه الأجواء الضاغطة أن يتلقّى الإنسان بوعي قوله تعالى: (وَلاَ تَهِنُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(٣٦).
وقوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الاَْرْضِ)(٣٧).
وقوله تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(٣٨) وقوله تعالى: (لأَغْلِبَنَّ أنَا وَرُسُلِي)(٣٩٩) وقوله تعالى: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ)(٤٠).
ج - وعي دور الإنسان المسلم على وجه الأرض: وهو القيمومة والشهادة والإمامة للبشرية. يقول تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(٤١).
د - وعي دور هذا الدين في حياة البشرية: في إزالة الفتنة والعوائق من طريق الدعوة، يقول تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)(٤٢).
هـ - وعي السُّنن الإلهية للتاريخ والمجتمع: وضرورة الإعداد والتمهيد والحركة والعمل ضمن هذه السُّنن واستحالة اختراقها، ولذلك يأمر الله تعالى المسلمين بالإعداد لهذه المعركة الفاصلة (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّة)(٤٣).

ثانياً: (الأمل):
وعندما يكون الأمل بوعد الله لعباده وبحوله وقوّته وسلطانه فإنَّه لا ينفد، ولا يخيّب صاحبه. وبهذا الأمل يشدّ الإنسان المسلم حبله بحبل الله وحوله بحول الله، ومَن يشدّ حبله بحبل الله فلا نفاد لأمله وقوّته وسلطانه.

ثالثاً: (المقاومة):
والمقاومة نتيجة الأمل. إنّ الغريق الذي ينظر إلى فريق الإنقاذ يتقدّم إليه يغالب أمواج الماء، ويجد في عضلاته قوةّ فوق العادة لمغالبتها.

رابعاً: (الحركة)
والحركة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله وإعداد الأرض لظهور الإمام وقيام دولته العالمية، وإعداد جيل مؤمن يتولى نُصرة الإمام والإعداد لظهوره وعياً وإيماناً وتنظيماً وقوة.

خامساً: الدعاء لظهور الإمام:
ولا شكّ في أنّ الدعاء مع العمل والحركة وإلى جنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عوامل تقريب ظهور الإمام.
وقد وردت أدعية كثيرة في أمر ظهور الإمام وفي ثواب الانتظار، منها هذا الدعاء الذي يردّده المؤمنون كثيراً.
(اللّهمّ كن لوليك الحجّة ابن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كلِّ ساعة، وليّاً وحافظاً، وقائداً وناصراً، ودليلاً وعيناً، حتّى تسكنه أرضك، طوعاً وتُمتعه فيها طويلاً).
شكوى ودعاء
وفي دعاء الافتتاح، المنقول من الإمام الحجّة (عجّ)، تقرأ هذه الشكوى المرّة، وهذا الدعاء العذب:
(اللّهمّ إنّا نشكو إليك فَقْد نبيِّنا (صلى الله عليه وآله)، وغيبة وليّنا، وكَثْرة عدوِّنا، وقلَّة عددنا، وشدَّة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا...
اللّهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة تُعزُّ بها الإسلام وأهله وتُذِلُّ بها النِّفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة).

الانتظار الموجّه
إذن الانتظار انتظاران: الانتظار الواعي والموجّه والانتظار غير الموجّه، والثاني هو (الرصد) الساذج لعلامات الظهور: الصيحة، الخسف، ظهور السفياني، الدجّال.
ولست أنفي هذه العلامات، فقد وردت فيها روايات كثيرة في مجموعة روايات (الملاحم)، ورغم أن هذه الروايات لم تُدرس حتّى الآن دراسة سندية بصورة علمية دقيقة، إلاّ أنّني متأكّد سَلفاً من صحّة طائفة منها. ولكنّني في الوقت نفسه أُعارض أُسلوب (الرصد) في مسألة الانتظار، وأعتقد أنّ هذا الأُسلوب يحرف الأُمّة عن واجباتها ومسؤولياتها في مرحلة الانتظار والأُسلوب الصحيح في الانتظار.
أمّا الأوّل فهو (الانتظار الموجّه). وفي الانتظار الموجّه العمل والحركة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله والجهاد. وهذا هو العلامة الكبرى لظهور الإمام والعامل الأكبر لذلك؛ لأنّ الأمر يرتبط بسلسلة من السُّنن الإلهية الموضوعية في التاريخ والمجتمع، وهذه السُّنن لا تتحقق إلاّ بالعمل والحركة، والعلامات المذكورة في الروايات صحيحة على نحو الإجمال، ولكنّها في رأيي غير موقوتة بوقت خاص، وقد وردت روايات تصرِّح بتكذيب الوقّاتين. يقول عبد الرّحمن بن كثير: كُنّا عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ دخل عليه مهزم، فقال له: جعلت فداك أخبرني عن هذا الأمر الذي ننتظر متى هو؟ فقال: (يا مهزم، كذب الوقّاتون وهلك المستعجلون)(٤٤).
ويسأل فضيل بن يسار الإمام الباقر (عليه السلام): ألِهذا الأمر وقت؟ فقال (عليه السلام): (كذب الوقّاتون)(٤٥).
إذن تعني هذه العلامات التوقيت الدقيق لظهور الإمام. والصحيح أنّها مرتبطة بأعمالنا، فصحيح أنّ الخسف والصيحة من علامات الظهور، ولكنّ عملنا هو الذي يقرّبهما ويبعّدهما، وهذا تصحيح وتوجيه ضروري لابدّ منه لمفهوم الظهور. وهذا هو (الانتظار الموجّه).

تصحيح مفهوم الانتظار:
نحن اليوم نعيش في عصر يكثر فيه الحديث عن ظهور الإمام ولست أعرف في عصور تاريخنا القريب والبعيد عصراً كان الحديث عن ظهور الإمام ودولته يأخذ من اهتمام الناس هذا المأخذ القوي. إذن (الانتظار) سمة بارزة من سمات عصرنا. ولكن - مع الأسف - لم يجرِ تصحيح وتوجيه على مستوى الجمهور لمسألة الانتظار، ويبحث شبابنا عن ظهور الإمام (عج) وعلامات ظهوره في بطون الكتب، وفي رأيي أنّه اتّجاه غير صحيح، والصحيح أن نبحث عن ظهور الإمام والثورة الكونية التي يقودها في واقع حياتنا السياسيّة والاجتماعيّة.
إنّ علامات ظهور الإمام لا تستبطنها الكتب بقدر ما نجدها في واقعنا السياسي والحضاري المعاصر، وفي وعينا ومقاومتنا، ووحدة كلمتنا، وانسجامنا السياسي، وتضحيتنا وقدراتنا الحركية والسياسيّة والإعلاميّة.
إنّ المنهج الذي يتّبعه بعض شبابنا في البحث عن علامات ظهور الإمام في بطون الكتب منهج سلبي بالتأكيد. ويجب علينا تصحيح مفهوم الانتظار وتوجيه حالة الانتظار بالاتجاه الإيجابي. والفرق بين المفهومين يتمثَّل في أنَّ المفهوم الأوّل يجعل دور الإنسان في الانتظار دوراً سلبياً، والمفهوم الثاني يجعل دور الإنسان في عملية ظهور الإمام دوراً إيجابياً وفاعلاً ويربطها بحياتنا وواقعنا السياسي والحركي ومعاناتنا وعذابنا.
روي عن معمر بن خلاد عن أبي الحسن (عليه السلام) في تفسير قوله: تعالى: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ)(٤٦٦) قال: (يفتنون كما يُفتن الذهب ثُمَّ قال: يُخلصون كما يُخلص الذهب)(٤٧).
وعن منصور الصيقل قال: كنتُ أنا والحارث بن المغيرة - من أصحابنا - جلوساً، وأبو عبد الله (عليه السلام) يسمع كلامنا. فقال لنا: (في أي شيء أنتم هاهنا؟ هيهات لا والله لا يكون ما تمدّون إليه أعينكم حتّى تميّزوا).
وعن منصور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (يا منصور، إن هذا الأمر لا يأتيكم إلاّ بعد أياس. لا والله حتّى يُميّزوا، لا والله حتّى يشقى مَن يشقى ويسعد من يسعد)(٤٨).
يرتبط ظهور الإمام (عليه السلام)، إذن بعملنا وواقعنا وابتلائنا ومحنتنا، وسعادتنا وشقائنا أكثر ممّا يرتبط بالعلامات الكونية المذكورة في الكتب. وهذا مفهوم يجب أن نعمّقه ونثبّته.

مَن ينتظر الآخر نحن أم الإمام (عليه السلام)؟
وبناءً على هذا المفهوم ينقلب الأمر، ويكون الإمام (عليه السلام) هو الذي ينتظر حركتنا ومقاومتنا وجهادنا، وليس الأمر بالعكس.
فإنّ أمر ظهور الإمام إذا كان يتّصل بواقعنا السياسي والحركي فإنّنا نحن الذين نصنع هذا الواقع.
وبالتالي فنحن نستطيع أن نوطّئ لظهور الإمام بالعمل والحركة ووحدة الكلمة والانسجام والعطاء والتضحية والأمر بالمعروف، وبإمكاننا أن نؤخر ذلك بالتواكل والغياب عن ساحة العمل، والتهرّب من مواجهة المسؤوليات.

قيمة الانتظار
وهذا المفهوم الإيجابي والموجّه لـ (الانتظار) هو الذي يستحق هذه القيمة الكبيرة التي تعطيها النصوص الإسلامية له.
فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أفضل أعمال أُمّتي الانتظار)(٤٩).
وروي عنه (صلى الله عليه وآله): (انتظار الفرج عبادة) وروي: (المنتظر لأمرنا كالمتشحّط بدمه)(٥٠٠)، وهذه القيمة الكبيرة الواردة في هذه الروايات تناسب هذا التصوّر الإيجابي عن الانتظار، وأبعد شيء عن التصوّر السلبي للانتظار بمعنى (الرصد).

* * * علاقة (الحركة) بـ (الانتظار)
بين الحركة والانتظار علاقة متبادلة
وقد تحدّثنا عن علاقة الانتظار بـ (الحركة)، والآن نتحدّث، إن شاء الله تعالى، عن علاقة الحركة بـ (الانتظار).
العمل الحركي
العمل الحركي عملية هدم وبناء، ولذلك فهو يقترن بالتحدّي والمقاومة والمعاناة والعذاب دائماً، ولو كانت الحركة بناءً فقط من دون هدم لم تكن لتتطلّب كلّ هذا الجهد والعناء. فإنّ الهدم يقع على كيان سياسي قائم، ولكلِّ كيان منتفعون ينتفعون به ويدافعون عنه. والدعوة إلى التوحيد حركة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. ولذلك تقترن هذه الدعوة بـ (الجهاد والقتال) (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)(٥١).
فلا يمكن أن تشقّ هذه الدعوة طريقها إلى حياة الناس من دون إزالة الفتنة، وإزالة العقبات التي يضعها المنتفعون من الكيان السياسي للشرك. ولا يمكن إزالة الفتنة من طريق الدعوة إلاّ بالقتال والجهاد. وذلك لأنّ التوحيد لا يستقرّ في فراغ سياسي واجتماعي، وإنّما يستقر في موضع الشّرك، ولا تقوم دعوة إلى الله إلاّ على أنقاض الشّرك.

ضريبة العمل الحركي:
ولهذا السبب فإنّ القيِّمين على الشّرك وقادته يبذلون كلّ ما فيوسعهم لإعاقة حركة التوحيد، وإثارة الفتن وزرع الألغام والعقبات في طريق الدعاة إلى الله. والدعوة إلى التوحيد تتطلب إزالة هذه الفتن جميعها ومواجهة جميع هذه المعوّقات وتحدي كيان الشّرك.
وهذان الأمران: التحدي والمواجهة يكلفان الدعاة إلى الله تعالى كثيراً في أنفسهم وأهلهم وأموالهم، ويتطلّبان منهم جُهداً كبيراً وما يحمّلهم خسائر واسعة.

التكليف بالحركة
لهذه الأسباب يعطي القرآن اهتماماً كبيراً وأكيداً للتكليف بالحركة، ولولا هذه المشقّة والمعاناة في حركة التوحيد لم يكن وجه لكلِّ هذا التأكيد. يقول تعالى: (وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ)(٥٢).
(وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ)(٥٣).
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ)(٥٤).
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ)(٥٥).
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(٥٦).
(جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ)(٥٧).
(وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)(٥٨).
(انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)(٥٩).
(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)(٦٠).
(وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)(٦١).
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ)(٦٢).
وهذه جميعها تعليمات حركية باتجاه تغيير الواقع وإحلال التوحيد محل الشّرك وإزالة الفتن والعوائق من طريق الدعوة.

ضعف الإنسان:
يضعف الإنسان عن القيام بمثل هذه المسؤولية الصعبة، ولا يجد في نفسه القدرة على مواجهة جميع هذه العقبات والعوائق، فإنّ المعركة بين جبهتي التوحيد والشّرك ضارية وشرسة، فيجد الإنسان في نفسه ضعفاً من مواجهة هذه الجبهة لوحده، أو مع قلّة من المؤمنين ويستجيب لهذا الضعف وينسحب عن المواجهة إلاّ أن يعصمه الله تعالى. والاستجابة لعوامل الضعف في نفس الإنسان هي أوّل العوائق التي يواجهها العاملون في سبيل الله، ويبرز هذا الضعف على شكل الخوف والجبن من الطاغوت وأعوانه، أو التعب من مواصلة الطريقة، أو اليأس من جدوى الاستمرار، أو حبّ العافية وإيثار الراحة، أو كلّ ذلك.
والذين تساقطوا على الطريق كثيرون ممّن لم يتمكّنوا من إكمال المسيرة.

كيف نُحصّن أنفسنا من السقوط؟
ولابدّ من أن نبحث عن العوامل والأسباب التي تحصّننا في هذه المسيرة من السقوط وتعصمنا من الشَّيطان، ومن ضعف أنفسنا، ووسائل التحصُّن والعصمة في حياة العاملين كثيرة. وأهمّها أربعة يذكرها القرآن:
١ - الاستعانة بالصّبر والصّلاة.
٢ - الولاء.
٣ - الميراث.
٤ - الانتظار.
وفي ما يلي توضيح موجز لهذه الوسائل الأربع:
١ - الاستعانة بالصَّبر والصَّلاة:
يقول تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)(٦٣).
ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)(٦٤).
وفي سورة هود يشدّ الله على قلب رسوله (صلى الله عليه وآله) في وسط المعركة الضارية، التي كان يخوضها مع أئمة الشّرك في الجزيرة، فيقصّ له قصّة مسيرة التوحيد الطويلة. ثُمَّ يقول تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) بعد استعراض هذه المسيرة الطويلة: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَالَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ* وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ الَّليْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(٦٥).
والصَّبر هو الثبات لسُنن الله تعالى. وتجري المعارك بموجب سُنن الله. والذي يريد أن يربح المعركة لابدّ من أن يعرف هذه السُّنن ويثبت لها ويقابلها بما يكافئها ويقابلها في سنن الله. وإعداد القوّة المكافئة لقوّة العدوّ في ساحة المعركة، أو في الساحة السياسيّة، أو الإعلام... من الصَّبر.
إنّ الصَّبر ليس بمعنى أن يتحمّل الإنسان العدوّ، بل بمعنى أن يقاوم ويثبت للعدوّ، ولا ينهار ولا ينسحب من مواجهته، حتّى يتمكّن من ردعه ودفعه بقوّة مكافئة لقوّته، وهو المعنى الإيجابي للصَّبر.
والصَّلاة تُمثّل الارتباط بالله وذكره، والإنسان المسلم في وسط المعركة لابدّ من أن يستعين بالله ويذكره ذكراً كثيراً، ويستمدّ القوّة والعزم من الله - ويشدّ حبله بحبل الله -، فإذا وَصَل الإنسان حبله بحبل الله تعالى في ساحة المعركة، فإنّه لا يخاف ولا يجبن ولا يضعف، وهذا هو معنى الصَّبر والصَّلاة.
٢ - الولاء
المسلمون نسيج واحد، بعضهم من بعض، تربط بعضهم ببعض علاقة عضوية متينة هي علاقة الولاء. وهذا الولاء هو الولاء على الخط الأُفقي في مقابل الولاء لله تعالى ورسوله وأولياء الأُمور، وهو الولاء على الخط العمودي في نسيج المجتمع الإسلامي. وإلى هذه العلاقة العضوية التي تشدُّ الأُمّة المسلمة بعضها ببعض، وتكوِّن منها كتلة مترابطة واحدة تشير الآية الكريمة: (وَالْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض)(٦٦). وهذا الولاء يتضمّن التحابب والتناصر والتضامن والتكافل والتعاون والتسالم والتناصح.
والأُمّة التي يرتبط بعضها ببعض بهذه الوشائج القويّة أُمّة متماسكة قويّة في ساحة المعركة، ولأمر ما يجعل الله تعالى أساس العلاقة بين أطراف هذه الأُمّة وأعضائها على أساس الولاء. فإنّ علاقته أمتن علاقة في الأُسرة الواحدة.
ولمّا كانت مهمّة هذه الأُمّة الأُولى هي المواجهة والتحدّي في ساحة الصراع، فلابدّ من أن تتمتّع ببناء داخلي قويّ ونسيج محكم ومتين، لتستطيع أن تقاوم ضراوة المعركة الحاسمة التي تدخلها هذه الأُمّة. ومن دون هذا الولاء المتين الذي يشدّ بعض المسلمين إلى بعض لا تستطيع هذه الأُمّة أن تقاوم جبهة الكفر والنفاق في هذه المعركة المصيرية. وهذه الأُمّة مجتمعة تعتصم بحبل الله، وهي كتلة واحدة، ومجموعة واحدة، وأُسرة واحدة، في مواجهة أئمة الكفر (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ)(٦٧).
وفي هذه الآية يأمرهم الله تعالى بالاعتصام أوّلاً بحبل الله في ساحة المعركة، وأن يكون هذا الاعتصام من قبل الجميع (جميعاً).
فإنّ الصراع يتطلّب من كلّ من الطرفين المتصارعين أن يستحضر كلّ قوّته. وقوّة هذه الأُمّة في أمرين: في اعتصامها بالله وفي اجتماعها ووحدة كلمتها في هذا الاعتصام.

٣ - الميراث
ومن الضروري أن يستحضر أعضاء هذه الأُسرة، في ساحة المعركة، عراقة هذه الأُسرة في التاريخ، وجذورها التاريخية. فإنّ معرفة هذه العراقة والعمق التاريخي لهذه الأُسرة واستحضارها في ساحة المواجهة تمنح الدعاة والعاملين في سبيل الله في ساعة المواجهة قوّةً وصلابةً ومتانةً واستحكاماً أكثر. فليست هذه الحركة الكبيرة في التاريخ حركة مبتورة الجذور، وإنّما هي تضرب في أعماق التاريخ من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وإلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). وحركة تملك هذا العمق والعراقة، وتثبت لمؤامرات المشركين وكيدهم ومكرهم طوال عشرات القرون، حَرِيّة بأن تثبت وتثبت جدارتها وكفاءتها في هذه المعركة. إنّ أُسرة التوحيد شجرة طيّبة على وجه الأرض أصلها ثابت وفرعها في السّماء.
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاَْمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)(٦٨).
والشّرك كذلك أُسرة إلاّ أنّها أُسرة مبتورة أُجتُثت من فوق الأرض مالها من قرار. وإنّه لَمن الضروري لأعضاء هذه الأُسرة الداعية إلى الله، أن تستحضر جذورها وعمقها وعراقتها في التاريخ، وصلتها بالصدِّيقين والصَّالحين والراكعين والساجدين والذاكرين الله والدعاة له.
ولأمر ما نحيِّي الحسين (عليه السلام) ونسلّم عليه بهذا الميراث الضخم الذي يرثه من آبائه (عليهم السلام)، من آدم إلى نوح إلى إبراهيم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنقول: (اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ آدَمَ صَفْوَةِ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوح نَبِيِّ اللهِ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ اِبْراهيمَ خَليلِ اللهِ).
إنّه لَمن الضروري، في ساحة المعركة، أن يستحضر الإنسان هذا العمق وهذه العراقة، فإنّها تعصمه وتحصّنه وتدعمه في وسط هذه المعركة الضارية.
٤ - الانتظار والأمل
والانتظار رابع العوامل التي تمدّ الإنسان بالحركة، فإنّه الانتظار يبعث الأمل في نفسه، والأمل يمنحه القدرة على المقاومة والحركة. إنّ الغريق الذي ينتظر وصول فريق الإنقاذ، يقاوم أضعاف ما يقاوم الغريق الذي يفقد الأمل من الإنقاذ.
إنّ الإيمان بـ (وراثة الصَّالحين) للأرض و(إمامة المُستضعفين المؤمنين) وأنّ (العاقبة للمُتّقين) يمنح الصَّالحين والمُتّقين ثقة وقوّة، ويثبّت أقدامهم على أرض المعركة، ويمنحهم قدرة على مواجهة الصعاب وتحدّي الجبابرة والمُستكبرين في أشقّ الظروف وأقساها ويحول بينهم وبين الانهيار والهزيمة النفسية في ظروف المحنة الصعبة.
ولأمر ما يؤكّد القرآن الكريم على حقيقة (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(٦٩). ويقرّر وراثة الصَّالحين للأرض ويؤكّدها كما قرّرها الله تعالى من قبل في (الزبور).
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(٧٠).
ولأهمية هذه الحقيقة، وضرورة تأكيدها وتعميقها في نفوس المؤمنين، وبناء العقلية الإسلامية عليها، يقرّرها الله تعالى في (الذكر) و(الزبور) معاً. ويقرّر الله تعالى إمامة المستضعفين في الأرض وقيمومتهم على مسيرة الحضارة الإنسانية... وهذا إقرار من الله تعالى وإرادة حتمية منه سبحانه، إذا استجاب المستضعفون لما يأمرهم به ويدعوهم إليه، من الإيمان والعمل الصالح.
يقول تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الاَْرْضِ)(٧١).
وهاتان الآيتان، وإن كانتا واردتين، في قصة أمر موسى (عليه السلام) وفرعون وهامان، فإنّ الإرادة الإلهيّة لإمامة المُستضعفين المحرومين مُطلقة وغير مقيّدة بشيء إلاّ الاستجابة لما يدعو الله تعالى إليه المؤمنين من الإيمان والعمل الصالح، وهذا الوعد الإلهي بإمامة المستضعفين في الأرض يمنح المؤمنين المستضعفين قوّة وثقة وطمأنينة، ومقاومة وصبراً على تحمّل متاعب الساحة والصراع، وثباتاً على الأذى، ويثبّت أقدامهم على أرض المعركة شأنه في ذلك شأن أي انتظار حقيقي للإنقاذ، يبعث الأمل في نفوس المقاتلين في ساحات القتال. وفي وسط المعركة، في مواجهة فرعون وهامان يثبّت رسول الله موسى بن عمران(عليهما السلام) قومه من بني إسرائيل في ساحة المواجهة والمعركة، بوعد الله وانتظار الفرج، وانتظار المددّ من الله تعالى.
تأمّلوا في هذه الآيات المباركات من سورة الأعراف:
(قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرواْ إِنَّ الاَْرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الاَْرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)(٧٢). فيحاول نبيّ الله موسى بن عمران (عليهما السلام) أن يُشعر بني إسرائيل في ساحة المعركة، وفي ساعة المواجهة بالأمل بالله تعالى، ووعد الله، وانتظار الفرج. ويقرّر لهم هذا القرار الإلهي العظيم: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرواْ إِنَّ الاَْرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَا لْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).
ومن عجب أن ربط موسى بن عمران (عليهما السلام) بين (الصَّبر) و(الانتظار) لوعد الله (اصْبِرواْ إِنَّ الاَْرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ) ويحاول بنو إسرائيل أن يعيدوا نبيّهم (عليه السلام) من انتظار المستقبل إلى مرارة الحاضر، فيقولون له: (أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) فيعود موسى بن عمران(عليهما السلام) إليهم مرّة ثانية ليعيدهم بالنَّبرة نفسها المطمئنة إلى انتظار وعد الله والصَّبر على الأذى حتّى يأذن الله بالفرج، وهو قريب: (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الاَْرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
إذن فإنّ الله تعالى يريد لهذه الأُمّة أن يثقّفها على (الوراثة) و(الانتظار)، وراثة الأنبياء والصَّالحين وانتظار وعد الله تعالى بالفرج وإمامة الصَّالحين. وحركة التوحيد يحفّها من جانب قانون (الوراثة) ومن جانب آخر قانون (الانتظار). والوراثة والانتظار هما أهمّ أعمدة حركة التوحيد في مسيرها الطويل الشاق. وعلينا أن نُثقّف أنفسنا بهذه الثقافة القرآنية المزدوجة (الوراثة) و(الانتظار).

ــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(١) الأنبياء: ١٠٥.
(٢) مسند أحمد بن حنبل: ٣/٣٩٣ ح١٠٧٤٦.
(٣) الكتاب المقدّس، سفر مزامير داود، مزمور ٣٧.
(٤) الأنبياء: ١٠٥.
(٥) مقدمة ابن خلدون: ٣١١.
(٦) مجلّة الجامعة الإسلامية، العدد ٤٥.
(٧) الزخرف: ٦١.
(٨) ابن حجر الهيتمي، الصواعق المحرقة ١: ٢٤٠.
(٩) معجم أحاديث الإمام المهدي (عليه السلام)، تأليف الهيئة العلمية في مؤسسة المعارف الإسلاميّة إشراف الشيخ عليّ الكوراني، نشر مؤسسة المعارف الإسلاميّة، طط١ (١٤١١ هـ)، قم، مطبعة بهمن.
(١٠) بحار الأنوار ٥١: ١٢٠.
(١١) منتخب الأثر: ١٦٢.
(١٢) القصص: ٥.
(١٣) القصص: ٦.
(١٤) الأحزاب: ٦٢.
(١٥) الأنفال: ٦٠.
(١٦) مستدرك الصحيحين ٤: ٤٦٤.
(١٧) بحار الأنوار ٥٢: ٢٤٣. والسيوف، في هذا الحديث، تعني السّلاح.
(١٨) عصر الظهور: ٢٠٦.
(١٩) بحار الأنوار ٦٠: ٢١٦.
(٢٠) المصدر السابق ٥٢: ٢٣٢.
(٢١) الإسراء: ٥.
(٢٢) بحار الأنوار ٥٢: ٦٣.
(٢٣) الإسراء: ٥.
(٢٤) كنز العمّال للمتّقي الهندي ٧: ٢٦.
(٢٥) ينابيع المودّة للقندوزي: ٤٤٩.
(٢٦) بحار الأنوار ٥٢: ٣٠٧.
(٢٧) بحار الأنوار ٥٢: ٣٣٤.
(٢٨) بحار الأنوار ٥٣: ٢٣٨ و٢٣٩.
(٢٩) سورة ص: ٤٥ - ٤٧.
(٣٠) القصص: ٧٧.
(٣١) البقرة: ٢٠١.
(٣٢) الإسراء: ٢٩.
(٣٣) المائدة: ٥٤.
(٣٤) نهج البلاغة، مقتطفات من خطبة المتّقين ج٢ / ١٦٤ شرح محمّد عبده.
(٣٥) المُزَّمِّل: ١ - ٧.
(٣٦) آل عمران: ١٣٩.
(٣٧) القصص: ٥ - ٦.
(٣٨) الأنبياء/ ١٠٥.
(٣٩) المجادلة: ٢١.
(٤٠) الحجّ: ٤٠.
(٤١) البقرة: ١٤٣.
(٤٢) البقرة: ١٩٣.
(٤٣) الأنفال: ٦٠.
(٤٤) إلزام الناصب ١: ٢٦٠.
(٤٥) المصدر السابق.
(٤٦) العنكبوت: ١ - ٢.
(٤٧) إلزام الناصب ١: ٢٦١.
(٤٨) الكافي ١: ٣٧٠، ح٣.
(٤٩) إلزام الناصب ١: ٤٦٩.
(٥٠) إكمال الدين وتمام النعمة: ٦٤٥، مؤسسة النشر الإسلامي (١٤٠٥ هـ).
(٥١) الأنفال: ٣٩.
(٥٢) البقرة: ٢٣٨.
(٥٣) لقمان: ١٧.
(٥٤) هود: ١١٢.
(٥٥) النحل: ١٢٥.
(٥٦) العلق: ١.
(٥٧) التوبة: ٧٣.
(٥٨) البقرة: ٢١٨.
(٥٩) التوبة: ٤١.
(٦٠) البقرة: ١٩١.
(٦١) البقرة: ١٩٠.
(٦٢) الأنفال: ٣٩.
(٦٣) البقرة: ٤٥.
(٦٤) البقرة: ١٥٣.
(٦٥) هود: ١١٢ - ١١٥.
(٦٦) التوبة: ٧١.
(٦٧) آل عمران: ١٠٣.
(٦٨) إبراهيم: ٢٤ - ٢٥.
(٦٩) الأعراف: ١٢٨.
(٧٠) الأنبياء: ١٠٥.
(٧١) القصص: ٥ - ٦.
(٧٢) الأعراف: ١٢٨ - ١٢٩.

 

وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف - واحة
© Alhawza News Agency 2019

اخبار ذات صلة

تعلیقات الزوار