المقالات والبحوث
المتقون هم من يخشون الرحمن بالغيب
الشيخ حيدر السعدي
قال الله سبحانه وتعالى : {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق : 31] {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق : 32] {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق : 33]
تذكر هذه الاية المباركة ان الجنة هي التي تاتي طائعة وتُقَرَب الى المتقين . ثم تذكر صفات اولئك المتقين الذين ازلفت لهم الجنة ، ومنها انهم يخشون الرحمن بالغيب .
فالمتقون بعد ان عرفوا الله وتعلقت قلوبهم به ، لا يملكون من امرهم الا ان يخشوا الله العظيم الذي بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير .
ومعنى الخشية كما ذهب اليه الشيخ الطوسي (قدس سره ) : ( انزعاج القلب عند ذكر السيئة وداعي الشهوة حتى يكون في اعظم حال من طلبه سبع يفترسه او عدو يأتي على نفسه او طعام مسموم يدعى إلى اكله هذه خشية الرحمن التي تنفعه والتي دعا اليها ربه)
وهذه الخشية خشية حقيقية ، لا تظاهر فيها ولا رياء ، فانهم يخشونه بالغيب حيث لا يراهم احد ولا يطلع على حالهم إنسان ، وهذا يعني ان المتقين يخشون الله عز وجل في السر والخفاء كما يخشونه في العلن والملاء .
وهنا بحثان :
الاول : الفرق بين الخشية والخوف
سنبحث اولا في السبب الذي من اجله جاء التعبير هنا بكلمة الخشية وليس بكلمة الخوف ؟ وما الفرق بين الخشية والخوف ؟
يقول الراغب الاصفهاني في مفرداته : ( الخشية خوف يشوبه تعظيم واكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه ولذلك خص العلماء بها في قوله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر : 28] وقال } واما من جاءك يسعى وهو يخشى { عبس : 8-9 .....)
وقال الرازي في تفسيره (الخشية والخوف معناهما واحد عند أهل اللغة ، لكن بينهما فرق وهو أن الخشية من عظمة المخشي ، وذلك لأن تركيب حرف خ ش ي في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة يقال شيخ للسيد والرجل الكبير السن وهم جميعاً مهيبان ، والخوف خشية من ضعف الخاشي وذلك لأن تركيب خ و ف في تقاليبها يدل على الضعف تدل عليه الخيفة والخفية ولولا قرب معناهما لما ورد في القرآن { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [ الأنعام : 63 ] و { تَضَرُّعًا وَخِيفَة } [ الأعراف : 205 ] والمخفي فيه ضعف كالخائف )
فالخشية ليست أي خوف بل هو خوف عن علم بمن نخاف منه وتعظيم له ، وهذه المفردة تتناسب مع المتقين الذين يعظمون الله سبحانه وتعالى ويعرفونه ويعرفون قدرته وقوته ؛ ولذا فهم يخشونه بحق . اما الخوف فيكون من جهة ضعف الخائف لا من جهة عظمة المخوف منه .
والله سبحانه وتعالى يتحقق معه الامران , فنحن نخافه لضعف فينا ونخشاه لعظمته ، ولكن الاية المباركة تريد ان تشير الى امر مهم وهو ان المتقين لا يخافون من الله لمجرد ضعفهم وانما هم يخشونه تعظيما واجلالا ، فهذه الصفة هي التي تتلاءم مع وصفهم بالتقوى ، وسيتبين ذلك في طيات الكلام ان شاء الله تعالى .
الثاني : لماذا كانت الخشية من صفة الرحمن وليست من صفاته الاخرى جل جلاله
وهنا نبحث في سؤال اخر و هو ان المتقين وصفوا في هذه الاية المباركة بانهم يخشون الرحمن ، فالصفة الالهية التي ذكرت موضوعا للخشية هي صفة الرحمن وهذا قد يثير تساؤلا مفاده : اننا يمكن ان نفهم الامر لو قيل ان المتقين يخشون الله او انهم يخشون العظيم او الجبار او الملك وما شابه ذلك من صفات الجلال ، اما انهم يخشون الرحمن فهذا غير مفهوم ؛ لان المنتظر من الرحمن الرحمة ، فلماذا نتعامل معه بمبدأ الخشية ؟
والجواب : ان في هذا التعبير مدحا للمتقين فانهم برغم علمهم بان الله رحمن بهم ، وان رحمته وسعت كل شيء الا ان ذلك لم يغيب صفة العظمة والجبروت التي يمتاز بها عن عقولهم وقلوبهم ، فهم يخشونه برغم رحمته جل جلاله ، بخلاف غيرهم الذين غرتهم الرحمة الالهية للتجرؤ على المعصية ، فعندما يقال لهم : لماذا تعصون الله يكون جوابهم : ان الله رحمن رحيم .
فالمتقون يخافون الله تعظيما له ؛ ولذا وصفوا بانهم يخشونه ، وتعظيمهم له باق وراسخ رغم معرفتهم بانه رحمن ، فالرحمة الالهية لم تقلل او تهون من تعظيم المتقين لله تعالى ، ولم تؤثر على خشيتهم منه جل جلاله .
قال الرازي في تفسيره : (قال الله تعالى ههنا : { خَشِيَ الرحمن } مع أن وصف الرحمة غالباً يقابل الخشية إشارة إلى مدح المتقي حيث لم تمنعه الرحمة من الخوف بسبب العظمة ، وقال تعالى : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشعا مُّتَصَدّعاً مّنْ خَشْيَةِ الله } [ الحشر : 21 ] إشارة إلى ذم الكافر حيث لم تحمله الألوهية التي تنبىء عنها لفظة الله وفيها العظمة على خوفه وقال : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] لأن { إِنَّمَا } للحصر فكان فيه إشارة إلى أن الجاهل لا يخشاه فذكر الله ليبين أن عدم خشيته مع قيام المقتضى وعدم المانع وهو الرحمة)
© Alhawza News Agency 2019