المقالات والبحوث

نظر الشهيد الصدر (قدّس سرّه) بين العمل الاجتماعي والتحصيل الحوزوي

نظر الشهيد الصدر (قدّس سرّه) بين العمل الاجتماعي والتحصيل الحوزوي
المصدر: واحة_وكالة انباء الحوزة العلمية

 

بقلم :الشيخ يوسف الكناني

 

من المعدلات الصعبة التي تواجه المرجعية الدينية ذات الاتجاه الاجتماعي والعمل الحركي هو التوفيق بين وظيفتين كلاهما من صميم العمل المرجعي وتحظيان بالأهمية البالغة؛ لكونهما آليتين وركيزتين من الركائز التي يتوقّف عليهما نجاح العمل وتحقيق الهدف المنشود.

الوظيفة الأولى: التحصيل العلمي لطلبة العلوم الدينية؛ إذ قوام الطالب الحوزوي وأهميته ووظيفته الأولى هو التحصيل العلمي، وبدونه يفقد كلّ مقوماته، فإنّ طالب العلم لا يكون بزّيه الديني ولباسه الحوزي وهندامه ومظهره، وإنما أساس شخصيته التي بها يؤثّر في الآخرين ويجذبهم للدين ويقنعهم بالأفكار الصحيحة والعقائد الحقّة هو ما رصيده العلمي والمعرفي.

فلا شك أن طلبة العلم معرّضون للسؤال والجواب، وأمامهم وظيفة هداية الأمة وتبليغ رسالات الله تعالى إلى الناس، والناس تتّبعهم اتباع الجاهل للعالم، فكيف إذا كان المتبوع جاهلاً ولا يحسن إلاّ ألفاظ رنّانة وكلمات خالية من المحتوى الرصين، فإن مَثَل هذا كمثل البحر لا يزيد الظمآن إلاّ ظمأ، فيبعدهم عن الهداية ويقرّبهم من الضلال، ومن هنا كان الشهيد الصدر (قدّس سرّه) لا يركّز على التحصيل فقط بل كان يصبّ نظره إلى أن تُملأ الحوزة بالمجتهدين فيقول: «إن الاجتهاد ضروري أو أكثر من ضروري، وعرفنا ما له من نتائج خاصة وعامة، والمجتمع بدون مجتهدين، أو قل البشرية بدون مجتهدين لا شيء، ملحقة بالعدم، وتكون ضالة ومضلّة، (وإن كان مو لطيف تسوى گحف أو تسوى حذاء عتيگ) إنما شأنها بالحقيقة بالمجتهدين، وكلما كثر المجتهدون والمفكرّون يكون شأنها أكثر وأعظم... تعدّد المجتهدين حتّى لو كانوا ألفاً أو عشرة آلاف، بل لو كان كلّ أفراد الحوزة مجتهدين فهذا من لطف الله على المذهب وعلى الدين وعلى الإنسانية... إذن فالتعمّق إلى هذه الدرجة في علوم أهل البيت (عليهم السلام) ضروري؛ لأنّ المجتهد يختلف عن غيره بأن فتواه حجّة وقضاؤه حجّة وولايته حجّة، وأمّا غيره فبطبيعة الحال لا تكون فتواه حجة ولا قضاؤه حجة ولا ولايته حجّة، والبشرية تحتاج إلى من يرفع النقص الذي تبتلي فيه من قبيل العيوب الخلافات والانحرافات، فتحتاج إلى إقامة العدل وهذا لا يتمّ إلاّ بفتوى وقضاء وولاية المجتهد، وعمل ذلك من دون الاجتهاد فدونه خرط القتاد ولا يمكن أصلاً، وليتبوأ فاعله مقعده من النار، فقوله ليس بحجّة ولا تجب إطاعته حتّى لو كان من أفضل فضلاء الحوزة».

الوظيفة الثانية: العمل الاجتماعي، فلا شكّ أن المجتمع بحاجة ماسّة إلى إمام جماعة يصلي بالناس ويجيب عن أسئلتهم، ويقضي حوائجهم، كما أنّه بحاجة إلى المبلغين والخطباء، لا أن يكتفي بأنه طالب علم ولا يؤدي وظيفته تجاه الأمة، فهذا النحو من التفكير والسلوك مخالف للقرآن الكريم الذي يقول: «ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم» لا أنه يعتكف على الدرس إلى أن يموت من دون أن تنتفع البشرية بما درسه ومن دون أن يتصدى لهداية الناس.

وبناءً على المسلك الاجتماعي يكون تواجد الطلبة موزّعاً بين الدرس في الحوزة العلمية والحضور في الميدان الاجتماعي، والوظيفة الثانية غالباً ما تشغل الطالب عن التحصيل والحضور بالحوزة العلمية، وتمرّ عليه السنون ولا يزال لم ينهِ شيئاً ممّا يتعيّن عليه دراسته، وعلى تعبير الشهيد الصدر (قدّس سرّه) يقضي ثلاث سنوات أو أكثر ولم يكمل كتاب الأجرومية، أو ثلاثين سنة ولم يكمل كتاب المكاسب، فلا شك أن هذا ظلم لنفسه، وللمجتمع؛ لأنه لن يكون دقيقاً في الإجابة الشرعية، ولن يكون مبلّغاً ناجحاً ومؤثراً، إن لم يكن على العكس من ذلك، سيوقع الناس في الحرام بالإجابات الخاطئة التي سمعناها من البعض أو يكون سبباً لانحراف الناس، كما أن منبر التبليغ سيكون منبر جهل بدلاً عن أن يكون منبر علم، ولذلك قال (قدّس سرّه) لأئمة الجمع في لقاء البرّاني: «لا تكن صلاة الجمعة مانعاً لكم عن الدراسة، فبالرغم من أهمية صلاة الجمعة إلاّ أن الدراسة أهم؛ لأنّ فيها مستقبل الحوزة ومستقبل الشيعة ومستقبل المجتمع، وإنّي استهدفت إيجاد المراجع للمستقبل ... فأنت إذا تعبت على نفسك حقيقة سوف تخرج عن كونك إمام جمعة إلى كونك مرجعاً، وهذا هو الهدف المطلوب» .

وما بين هاتين الوظيفتين يقع دور المرجعية في إيجاد حالة التوازن، فكما أن المجتمع يطالب الحوزة بإيجاد وكلاء وخطباء في المناطق كذلك على الحوزة أنْ لا ترسل لهم أناساً جهلة، أو أنصاف متعلمين يضرّون أكثر ممّا ينفعون.

ومن هذا المنطلق كان (قدّس سرّه) حريصاً أشد الحرص على أن يتمّ طالب العلم تحصيله إلى جانب الوظيفة الاجتماعية، وعلى سبيل المثال أضرب بعض الأمثلة التي اتخذها (رحمه الله تعالى) كإجراءات سريعة لمعالجة مثل هذه المشكلة ومنها:

١.

 

إلزام الطلبة في حضور الدرس، والحثّ الكثير والشديد على مسألة التحصيل في اللقاءات أو المحاضرات الأخلاقية، حتّى أنّه في أحد الأيام ترك الدرس ولم يحضر على خلاف عادته، وفي اليوم الثاني قال لطلابه أنا لم احضر بالأمس عن قصد وعمد عقوبة للذين لم يحضروا بالأمس، واستخفوا بالدرس واعتبر تقصيرهم ظلماً لأنفسهم ولرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) صاحب هذه الحوزة وللأئمة (عليهم السلام).

٢. في الوقت الذي كان يحث الطلبة على الدرس والتحصيل، فوجئ بانزواء بعض الأساتذة من الحوزات الأخرى وامتناعهم عن التدريس حيث اتخذوا مسلك الدرس الخاص، لكيلا يعطون درس لطلبة حوزة الشهيد الصدر (قدّس سرّه)، فأعلن في حينها أن تكون هناك مخصصات تعادل ثلاثة أضعاف الراتب لمن يعطي درساً عامّاً في الحوزة، وبالفعل حصلت في الأشهر الأخيرة حركة دراسية واضحة.

٣. لمّا لم يستجب بعض أساتذة السطح العالي من الحوزات الأخرى للتدريس اضطر أن يقوم هو بنفسه بتدريس الكفاية، وكان عازماً على تدريس كتاب المكاسب أيضاً، رغم ما هو المعروف من أن أستاذ الخارج لا ينزل لتدريس السطح العالي، ولكنه من نكران ذاته وتواضعه، وشعوره بالمسؤولية والتكليف الشرعي أقدم على ذلك بنفسه (قدّس سرّه).

٤. الخطوة الاستراتيجية التي قام بها وهي تأسيس جامعة الصدر الدينية التي تهدف إلى ضمّ عدد مهم من الشباب الواعي الذي أنهى الدراسة الاكاديمية حيث خصّص لهم منهاجاً دراسياً مركّزاً للوصول إلى درجات علمية جيّدة، وطلب منهم عدم الانشغال بشيء غير الدراسة ليكونوا نواة مهمة في العمل الرسالي الإسلامي بعد قضاء مدّة أقلها ثمان سنوات.

وغيرها من الخطوات التي اتركها إلى فرصة أخرى، لعلّ الله سبحانه وتعالى يوفقنا لكتابتها إنه سميع مجيب، وإياه أسأل أن يتغمدّ شهيدنا الصدر الحبيب برحمته الواسعة ويرزقنا الشهادة على نفس الطريق الذي سار عليه إنّه سميع مجيب.

وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف - واحة
© Alhawza News Agency 2019

اخبار ذات صلة

تعلیقات الزوار