المقالات والبحوث
الإمام الحسين (عليه السلام) وأفق الخلق الأوّل، الشيّخ عماد الهلالي

الإمام الحسين (عليه السلام) وأفق الخلق الأوّل، الشيّخ عماد الهلالي
ورد في دعاء عرفة قول الإمام الحسين (عليه السلام): (اللهم .. ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً، وخلقتني من التراب ثم أسكنتني الأصلاب أمناً لريب المنون واختلاف الدهور، فلم أزل ظاعناً من صُلبٍ إلى رحم في تقادم الأيام الماضية، والقرون الخالية، لم تخرجني لرأفتك بي، ولطفك لي، وإحسانك إليّ في دولة أيام الكفرة، الذين نقضوا عهدك وكذبوا رسلك، لكنك أخرجتني رأفة منك وتحنناً عليّ للذي سبق لي من الهدى الذي يسّرتني..).
وتتضمن هذه الفقرة من الدعاء معاني دقيقة وعميقة ينبغي التفكر فيها، وسنقتصر على واحد منها:
وهو الالتفات إلى أفق الحياة قبل الشخصية الدنيوية
وأعني به أن الإمام (عليه السلام) يقول أن الله سبحانه كان يمكنه أن يخرجني في زمان سابق كشخص من أهل الماضي في أيام الكفرة قبل الإسلام أو في دولة كافرة بالرسالات.
وهذا الاحتمال المفتوح للخلق في أي زمان ومن أي أسرة (وحتى في غير البشرية مما هو مشتق من التراب) يدل على مستوى من الخلق تكون فيه كل الخيارات متاحة، وهو مستوى موجود في الوعي وفي مرتبة من مراتب تنزّل الخلق (وهو مشابه لفكرة التواريخ المتعددة لريتشارد فاينمان في ميكانيكا الكم، ولعالم الاحتمالات والإمكان بحسب هايزنبرك وملتقى كوبنهاغن، وللدالة الموجية الاحتمالية التي تتحول إلى واقع عند الرصد والقياس من قبل الإنسان، بل هو أكثر قابلية للتنوع من الدوال الرياضية التي تحكم هذه النظريات [إن الله على كل شيء قدير]).
وسنأخذ من هذا الموضوع الجانب التربوي منه فقط لسعته وعمقه، ونترك ما يدل عليه من معارف الخلق وتفسير بعض الابتلاءات.
والتربية فيه أن الالتفات إلى هذا الأفق يجرد الإنسان عن كل متعلقاته الشخصية، فكل ما لديك من مال ونسب وموقع اجتماعي كان يمكن أن لا توضع بينها وتكون لشخص آخر لو أنك خرجت في زمان سابق ومكان آخر.
وهو يدل على هوية روحية سابقة لا اسم لها ولا عنوان [لم يكن شيئاً مذكوراً] ورغم أن هذه الهوية العامة في مركز كل إنسان إلا أن أهل البيت (عليهم السلام) هم أول من التفت إليها، ولعله لأجل ذلك ذُكرت في سورة الإنسان [هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً] (الإنسان : 1) وهي السورة التي ذكرت بتأكيد كبير مناقب لأهل البيت حين تصدقوا بطعامهم على المسكين واليتيم والأسير وباتوا ثلاثة أيام بلا طعام.
وذلك الأفق خاضع لله تمام الخضوع ليس له ممانعة وقابل لكل أمر ولكل هوية يريدها الله عز وجل وهو غير مقطع بالزمان والمكان.
وصعود الإنسان إليه واشتقاق أعماله بحسبه يجعله في قمة الطاعة والاستسلام لله عز وجل.
بل في قمة الخوف، لأن الله عز وجل لا يسبقه فوت ولا يحتم عليه شيئاً ولا يفرض عليه قدر وزمان ففي قدرته أن يعيد كل شيء والبداء عنده شامل لكل شيء، وهو قادر اليوم على أن ينسخ كل ما أولانا به ويخرجنا في زمان سابق، ومن عرف ذلك كيف لا يخاف من الله؟ وكيف لا يخشى من زوال نعمته إذا عصى الله تعالى؟.
وهناك خصائص أخرى معرفية لهذا الأفق الممتد العام وغير المتشخص وغير المخصص، نترك التوسع فيها الآن لفطنة الباحثين.
وإنما أردنا الآن تذكيرهم به لفوائد قد تحصل لهم من عبادات هذه الليلة ينبغي معرفتها والاستفادة منها. وليست هي العطاء الوحيد المنتظر فيها، بل هي واحدة منها وإن [الله عنده أجر عظيم] لا يمكن توقعه ولا إحصاؤها، ورزق المؤمن من حيث لا يحتسب.
© Alhawza News Agency 2019