أخبار اسلامية

أخلاق الرسول بين التأسي والانبهار الشيخ حسن الصفار

أخلاق الرسول بين التأسي والانبهار  الشيخ حسن الصفار

 

أخلاق الرسول بين التأسي والانبهار

الشيخ حسن الصفار 

 

﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾  [سورة القلم، الآية:4].

ثمة تركيز إلهيٌّ لافت للنظر حول جانب محدّد من عظمة النبي الأكرم وهو الجانب المتمثل في الأخلاق العظيمة التي تخلّق بها. فمما لا شك فيه أنّ رسول الله كان عظيمًا في كّل جوانب الخير والكمال، فهو عظيم في عبادته ونسكه، وفي مكانته عند الله، كما في إنجازه التاريخي، غير أنه في مقام الإطراء والتقدير للنبي لم يركز سبحانه تعالى على شيء من تلك الجوانب، بقدر ما ركز من بين كلّ جوانب العظمة عنده على جانب محدّد، وأولاه الأهمية القصوى، ألا وهو عظمته في جانب الأخلاق، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. وهنا يأتي السؤال عن مغزى الإشادة الإلهية بالجانب الأخلاقي عند نبيّه على وجه التحديد؟

الأخلاق أولًا

أولًا: يبدو أنه تعالى أراد من الإشادة بأخلاق نبيّه لفت النظر إلى أهمية العظمة في هذا المجال. وأنّ العظمة مهما بلغ شأوها في سائر المجالات، لا تداني فضل وأهمية العظمة في مجال الأخلاق. فلو أنّ إنسانًا كان عظيمًا في علمه ومعرفته، لكنه في الوقت ذاته كان سيئًا في أخلاقه، فإنّ تميّزه العلمي لا يعوّض بأيِّ حالٍ عن سوء أخلاقه، وكذلك الحال مع من يكون عظيمًا في عبادته ونسكه، إلّا أنه سيئ الخلق، عندها لا يكون لهذه العبادة أية قيمة تذكر.

وبذلك تغدو العظمة في مجال الأخلاق، هي الأهمّ من بين سائر المجالات الأخرى، وإذا كان هناك من هو جامع للعظمة في أكثر من مجال، فإنّ عظمته في مجال الأخلاق هي الأولى بالاهتمام والتركيز. لذلك ركّز الله سبحانه وتعالى على عظمة نبيّه في هذا المجال، حتى إنّه لخّص أهداف بعثته، وجوهر رسالته، في إتمام مكارم الأخلاق، في قوله: «إنَّما بُعِثتُ لِأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ» [1] .

إنّ النصوص الدينية تشير بوضوح إلى أنه لا قيمة للعظمة في سائر الجوانب، في ظلّ تدنّي أخلاق المرء. فقد ورد عن رسول الله أنه قال: «ما يُوضَعُ في مِيزانِ امرئٍ يَومَ القِيامَةِ أفضَلُ مِن حُسنِ الخُلقِ»[2]  ، إنّ الصلاة والصيام وسائر أشكال العبادة، لا تعدل بمجموعها خصلة هي حسن الخلق، فلا شيء على الإطلاق أفضل من الأخلاق الحسنة. وقال أمير المؤمنين عليّ بن طالب: «رُبَّ عَزيزٍ أذَلَّهُ خُلْقُهُ»[3]  ، إنّ الإنسان قد يمتلك مقوّمات العزّة والعظمة، لولا أنّ أخلاقه السيئة تجعل منه ذليلًا وغير محترم ولا محبوبًا بين الناس. كما روي عن الإمام الحسن بن عليّ أنه قال: «إنَّ أَحسَنَ الحَسَنِ الخُلُقُ الحَسَنِ»[4]  ، فالتفوّق والتميّز في هذا المجال هو الأولى من التميّز في سائر المجالات الأخرى.

 

الاقتداء بالأخلاق النبوية

ثانيًا: توجيه الأمة إلى دراسة أخلاق نبيّها، والاقتداء بها. وقد جاء في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾. إنّ على الأمة أن تولي المجال الأخلاقي في سيرة نبيّها الأكرم، وأئمتها الأطهار، الاهتمام الأكبر، لا لغرض التبجيل والانبهار فحسب، ذلك أنّ كثيرًا من المسلمين درجوا على إبداء الإعجاب والانبهار، كلما ذكرت فضيلة أو مكرمة أو موقف أخلاقي لرسول الله، وليس هذا هو المطلوب، بل المطلوب أولًا وأخيرًا الاقتداء بالنبي، والتأسّي بأخلاقه، بخلاف ما هو سائد عند بعض الأوساط التي ترى في أخلاق النبي مُثلًا عليا لا يمكن بلوغها، والجواب على هؤلاء؛ أوَلم يبعث الرسول لكي يقتديَ به الناس!.

إنه ينبغي لكلّ فردٍ في الأمة أن يتأسّى بأخلاق رسول الله، خاصة أولئك الذين يتبوؤون مواقع القيادة والتأثير، من الحكّام، والعلماء، والقادة الاجتماعيين والإداريين.

لقد تناولت كتب التاريخ والسيرة النبوية سيلًا من المرويات والمواقف حول عظمة أخلاق النبي الأكرم. ومن تلك النماذج، ما رواه ابن مسعود عن رسول الله أنه قال: «اللّهمّ كما حسَّنتَ خَلْقي فحسِّنْ خُلْقي»[5]  ، فبالقدر الذي يهتم فيه الإنسان بجماله وأناقة مظهره، عليه أن يهتمّ بجمال أخلاقه وأناقة جوهره المعنوي.

وعن أنس أنه قال: «خدمت رسول الله عشر سنين، وفي لفظ: إحدى عشرة سنة، وأنا ابن ثمان سنين، في السفر والحضر، والله ما قال لي: أفّ قطّ، ولا لشيء صنعته لـِمَ صنعت هذا هكذا، ولا لشيء لم أصنعه لـِمَ لـَمْ تصنع هذا هكذا؟ ولا لشيءٍ صنعته: أسأت صنعته، أو لبئس ما صنعت، ولا عاب عليّ شيئًا قطّ، ولا أمرني بأمر فتوانيت عنه، أو ضيّعته فلامني، ولا لامني أحدٌ من أهله إلّا قال دعوه، فلو قُدِّرَ أو قال قضي أن يكون كان»[6]  ، وهذا ما يظهر إلى أيِّ حدٍّ بلغت أخلاقه وسجاياه بحيث لم يظهر التبرم ولا التأفّف من خادمه ولو لمرة واحدة طيلة عشر سنين، كما لم يكن معاتبًا ولا لوّامًا!، وفي ذلك رسالة لنا حول كيفية تعاملنا مع السّائقين والخدم العاملين في منازلنا.

 

ومما رُوي في عظمة أخلاقه ما رواه أبو داوود عن أنس أنه قال: «مَا رَأَيْتُ رَجُلًا الْتَقَمَ أُذُنَ رَسُولِ اللَّهِ فَيُنَحِّي رَأْسَهُ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأَسَهُ، وَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَخَذَ بِيَدِهِ فَتَرَكَ يَدَهُ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَدَعُ يَدَهُ» [7] ، أي إنّه لم يعرض قطّ، ولم ينح رأسه عن أحدٍ جاء يحدثه في أذنه سرًّا، حتى يكمل محدثه قول ما يريد، ولم يترك يد أحد جاء يصحبه أو يسلم عليه، حتى يبادر الآخر لنزع يده من يد النبي.

مدرسة في التربية

ومما روي في عظمة أخلاق النبي الأكرم ما جاء في رواية لأحد الأصحاب أنه قال: «بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، قَالَ: فَحَدَّقَنِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَا ثُكْلَاهُ، مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ؟ قَالَ: فَضَرَبَ الْقَوْمُ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُسْكِتُونَنِي، قُلْتُ: مَا لَكُمْ تُسْكِتُونَنِي؟ لَكِنِّي سَكَتُّ، قَالَ: فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، وَاللَّهِ مَا ضَرَبَنِي، وَلَا كَهَرَنِي، وَلَا سَبَّنِي، وَلَكِنْ قَالَ: «إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ، وَالتَّكْبِيرُ، وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ»[8]  .

وعن أنس قال: «كَانَ النَّبِيُّ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ الرَّجُلُ فَصَافَحَهُ لا يَنْزَعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ، حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَنْزَعُ، وَلا يَصْرِفُ وَجْهَهُ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُهُ، وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ»[9]  . وروي عن أنس أيضًا أنه قال: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ»[10]  .

لقد كان رسول يجيب دعوة العبد، ويعود المريض. وروى مسلم، قال الأصحاب بعد أن اشتدّ أذى المشركين على رسول الله: «يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»»[11]  . وعن أنس: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا فَقَدَ الرَّجُلَ مِنْ إِخْوَانِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا دَعَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ شَاهِدًا زَارَهُ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عَادَهُ»[12]  . وهكذا تمتلئ كتب التاريخ والسيرة بتراث كبير ونماذج مفصّلة عن عظمة أخلاقه.

على الأمّة أن تستقي من المعين الأخلاقي العظيم لنبيّها. وذلك لأهمية التحلي بالأخلاق الكريمة، التي لا قيمة للإنسان بدونها، مهما كانت لديه من مقوّمات القوة، فكلّ المقومات لا تعوّض الإنسان عن الاهتمام بحسن الخلق، ورقي التعامل مع الآخرين. والحقيقة الأخرى، هي أنّ هذه الأخلاق العظيمة الواردة في سيرته لا ينبغي أن تذكر لمجرّد الانبهار والتمجيد وحسب، وإنّما ينبغي أن تكون محورًا للتأسّي والاقتداء.

 

الخطبة الثانية: استقلالية الرأي والتعايش الاجتماعي

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ [سورة سبأ، الآية:46].

تدفع الطبيعة الاجتماعية للإنسان نحو التكيف والتوافق ضمن المحيط الاجتماعي الذي يتواجد فيه، إنْ على مستوى الفكر أو الموقف أو السلوك. وتزداد حالة التكيف الفردي مع المجتمع إلحاحًا وعلى نحو أكبر ضمن المجتمعات التقليدية، حيث يميل الفرد إلى تقبّل الأفكار السّائدة، ويتخذ ذات المواقف الاجتماعية المقررة، مقابل أيّ طرف وإزاء أيّ حدث أو قضية، كما ويمارس نفس السلوك المألوف، متقيّدًا بالأعراف والتقاليد الاجتماعية الصارمة.

دوافع التكيّف الاجتماعي

من هنا يأتي السؤال عن مغزى الرغبة الفردية في التكيّف مع المجتمع؟

والجواب عن ذلك:

الدافع الأول: أنّ التكيّف الاجتماعي معزّز أساس للشعور بالانتماء للمجتمع.

وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف - واحة
© Alhawza News Agency 2019

اخبار ذات صلة

تعلیقات الزوار