المقالات والبحوث

السيد المسيح (عليه السلام) في كلمات نهج البلاغة

السيد المسيح (عليه السلام) في كلمات نهج البلاغة
المصدر: مركز الامام الصادق الدراسات التخصصية

 

السيد المسيح (عليه السلام) في كلمات نهج البلاغة

 

بسمه تعالى

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: (وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (عليه السلام)، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ وَيَلْبَسُ الْخَشِنَ وَيَأْكُلُ الْجَشِبَ وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ وَسِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ وَظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا وَفَاكِهَتُهُ وَرَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَلَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ وَلَا مَالٌ يَلْفِتُهُ وَلَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ وَخَادِمُهُ يَدَاهُ)

 يعلّمُنا الإمام (عليه السلام) في هذه الكلمات القصار، درساً في الزهد في هذه الدنيا، والابتعاد عن زخرفها الذي يُوقع الانسان في شباكه، والورع وعدم التصارع عليها والتهالك فيها، فمثل هذه الدنيا لا تستحق أن يذل الإنسان نفسه من أجلها، ولولا ذلك لما أعرض عنها نبي الله عيسى المسيح (عليه السلام)، وسائر أنبياء الله وأولياؤه، من خلال وصفه لذلك النبي العظيم الذي (كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ)، فلا فراش يأوي اليه، ولا بيت يعيش فيه، وغالباً ما يجعل الحجر وسادة فينام عليه، وهو (َيَلْبَسُ الْخَشِنَ وَيَأْكُلُ الْجَشِبَ)، فلا لباس ناعم يغريه، ولا طعام لذيذ وشهيٌ يروق له، فيلبس اللباس الخشن ويأكل الطعام الغليظ، بل (َكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ)، وأي وصف أرقى من ذلك في هذا النبي الزاهد حيث يبحث الناس عن الإدام الجيد كاللحم والخل والملح ليطيب لهم الطعام، بينما هو إدامه الجوع، فقد روَّض نفسه الشريفة على ذلك وقبلت منه طائعة كريمة.

ولم يعتمد على شمعة تنير له الليل أو سراج، وإنّما (َسِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ وَظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا)، ولا ينشغل باللذائذ دون خالقه ومناه، فلا رياحين يشمّها، ولا فاكهة يطيب له طعمها، ولا زوجة تفتنه بجمالها وحسنها، ولا ولد يحزنه ما يصيبه من عوارض الدنيا، ولا مال يُدخله في زخارف الدنيا، وإنّما (َفَاكِهَتُهُ وَرَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَلَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ)، ولم يسيطر عليه الطمع قط  فكان عزيزا بالله تعالى (وَلَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ)، فصبّر نفسه وروّضها، لتكون دائمة الخدمة والحضور بين يديّ الله تعالى، فصار (دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ وَخَادِمُهُ يَدَاهُ)، (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) مريم: 34  

وما أحوج الناس التي تنتسب لعيسى المسيح ظاهرا في يومنا هذا الى الاقتداء به والسير على هداه بدلاً من الإيغال في هذه الدنيا والغرق في ملذاتها، بل الوقوع في محرماتها والله المستعان.

فيحثُّنا أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ جميعاً ـ للسير على منهاج وهدى هذا النبي الكريم، حيث يقول: (يَا نَوْفُ طُوبَى لِلزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا الرَّاغِبِينَ فِي الْآخِرَةِ أُولَئِكَ قَوْمٌ اتَّخَذُوا الْأَرْضَ بِسَاطاً وَتُرَابَهَا فِرَاشاً وَمَاءَهَا طِيباً وَالْقُرْآنَ شِعَاراً، وَالدُّعَاءَ دِثَاراً، ثُمَّ قَرَضُوا الدُّنْيَا قَرْضاً عَلَى مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ)

قوله (عليه السلام): (قرضوا الدنيا قرضا)، أي تناولوا من الدنيا بأطراف أسنانهم كناية عن زهدهم وترفّعهم عنها في قبال أولئك الذين خضموا الدنيا وأوغلوا فيها: (وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيع) 

هذا هو منهاج السيد المسيح (عليهم السلام)، فأين أولئك الذين ينسبون أنفسهم للسيد المسيح ظاهرا هل ساروا على هذا المنهاج وهل حفظوا تعاليمه وتضحياته، وما نراه اليوم في عالم الغرب، لهو جواب واضح لهذا السؤال

أما نحن المسلمون فلدينا علاقة وطيدة وحميمة مع السيد المسيح ـ فمضافا الى أنَّه نبي من أنبياء أولي العزم كلُّنا أيمانٌ به، وطاعة له ـ من حيث أنَّه بشرنا بالنبي الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله): (َإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِين) الصف: 6 ، وأنه سينصر الإمام المهدي الموعود (عليه السلام) في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطا وعدلا، كما في الرواية عن الإمام المجتبى عليه السلام) : (ما منّا أحدٌ إلّا ويقع في عنقه بيعةٌ لطاغية زمانه، إلّا القائم الذي يصلي خلفه روح الله عيسى عليه السلام)   

وكم هي المشتركات كثيرة بين هذا المنهاج الفذ للسيد المسيح، وسيرة أمير المؤمنين (عليهما السلام)، وهو المطلوب من الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، فحينما يرى الناس المحرومون أن أولياء الله تعالى وأكرم خلق الله عليه هذه حياتهم ملأُها ال

زهد والإعراض والترفّع عن ملذات الدنيا، سيخفّ ألمهم، وتهون معاناتهم، ويتّضح لدى الجميع حينئذٍ، كم هي وضيعة هذه الدنيا!، فلا تستحق التصارع والتكالب عليها

  فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) يجيب عاصم بن زياد حينما شكاه أخوه زياد اليه: (قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَجُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ!،  قَالَ: وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ)

وهو القائل: (أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وَإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ ... وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ * وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ ... وَايْمُ اللَّهِ ـ يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ ـ لَأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً وَلَأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا) 

  وقد تابع أمير المؤمنين (عليه السلام) القرآن الكريم في تسمية نبي الله عيسى بالمسيح، وقد قيل في سر هذه التسمية احتمالات متعددة:

منها: أنّه مُسح باليمن والبركة، فكان وجوده الشريف يُمنا وبركة على الخلق

ومنها: لأنَّه مطهرٌ من كل ذنب وعيب 

ومنها: لأن جبرائيل (عليه السلام) مسحه بجناحيه

ومنها: أن الأنبياء (عليهم السلام) كانوا يتمسَّحون به تبركا 

ومنها: أنَّه كان يمسح الأعمى فيبصر، ويمسح الأبرص والأكمه، فيعافى بإذن الله تعالى، وكما يخبرنا القرآن الكريم: (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ) المائدة: 110 ، (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً) مريم: 15

 

ميثم الفريجي 

النجف الأشرف

30 ربيع الثاني 1441 هج 

وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف - واحة
© Alhawza News Agency 2019

اخبار ذات صلة

تعلیقات الزوار