المقالات والبحوث
( وَإِنَّكَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [ القلم : 4 ] ✍️ الشيخ حسن عطوان
( وَإِنَّكَ لَعَلی خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [ القلم : 4 ]
✍️ الشيخ حسن عطوان
عندما يمدح انسان انساناً فقد يُحتمل في هذا المدح المجاملة وغلبة العاطفة ، لاسيما عندما يكون المادح ليس معصوماً .
أمّا أنْ يصف الله سبحانه إنساناً بأنّه على خلق عظيم ، بعبارة اشتملت على أقوى المؤكِدات ،
ف ( إنَّ ) تفيد التوكيد ، ولام الإبتداء المزحلقة في ( لعلى ) تفيد التوكيد .
فأي مستوى من الخلق كان عليه رسول الله ؟؟
???? أخلاقٌ تحملت جلف الأعراب ..
وتجسيدٌ كامل لخُلق القرآن ..
كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يدعو الناس لشئ إلّا ويبدأ بنفسه .
عندما كان يدعو الناس لعبادة اللّه فقد كان أعبد الناس جميعاً .
واذا نهاهم عن شئ فهو الممتنع عنه قبل الجميع .
رُمي بالحجارة ..
وألقيت عليه الأوساخ ..
وأُتهم بالجنون والسحر والكذب ..
وكان يقابل كل ذلك بالنصح والصفح ،
والدعاء لهم بالهداية والرشد ..
???? روى ابن ماجة في سننه قال :
" أتى النبي ( صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ) رجل فكلمه ، فجعل ترعد [ من هيبة الرسول ]
فرائصه ، [ الفريصة : لحمة بين الكتف والصدر ترتعد عند الفزع ]
فقال له : ( هون عليك. فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد ) ".
[ والقديد هو اللحم المجفف ، كناية عن البساطة ] .
[ القزويني ، محمد بن يزيد ، ( ابن ماجة ) ، ( ت : 273 هج ) ، الحديث ( 3312 ) ، ج 2 ، ص 1101 ، الناشر : دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ] .
???? ويصفه وصيُّه أمير المؤمنين بأنّه :
( طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ ، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَآذَانٍ صُمٍّ وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ ) .
[ نهج البلاغة ، الخطبة : 108 ]
???? ( طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ ) :
فهو كالطبيب لمرضاه ، لكنه لا ينتظر من المرضى أنْ يأتوه ، بل هو يذهب اليهم ..
مع أنَّ حال مرضاه أصعب من حال سائر المرضى ..
مرضاه مرضى ً في قلوبهم وعقولهم ،
مرضاه جهلة ويجهلون أنهم جهلة ومرضى ، فلا يقصدون طبيباً ، لذلك لا علاج لهم إلّا عند طبيب يقصدهم ، ليُشَخّص لهم المرض والعلاج .
????( قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ )
المراهم : جمع مَرْهَم وهي زيوت ودهون توضع على الرأس الجلد للعلاج .
والمواسم : جمع ميسم بالكسر ، يجمع على مواسم ومياسم ، وهي آلة حديدية توضع في النار لتوسم بها الإبل والمواشي ؛ لكي تُعْرف .
???? ( قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ ) :
فهو ( صلى الله عليه وآله ) كان يستعمل المراهم في موضعها وموطن حاجتها حيث تنفع .
???? ( وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ ) :
ويستعمل الكي بالحديد حيث لا تنفع المراهم .
وبعبارة : أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو طبيب الأرواح كان تارة يعالج مرضاه بالمراهم حيث يرى كفاية ذلك ، وأخرى يعالجهم بالكي بالمواسم ، حيث لا تنفع معهم المراهم .
???? وهناك معنى آخر ، وهو :
أنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في وصفه للرسول الأكرم يشير بعبارته الى أنَّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد استعمل اسلوبين في تربية الأمّة :
1. ( قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ ) : أي استعمل اللين والترغيب حيث ينفعان .
2. ( وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ ) : أي استعمل الحزم والشدة والتخويف ، حيث يقتضي الأمر لذلك .
وقد قدّم الإمام إحكام المراهم على إحماء المواسم ،
في إشارة لتقديم الرفق واللين على الشدة والخشونة .
???? وهنا إشارة لطيفة ، أنّه أحياناً يكون نفس الإحماء ، اي التهديد بالكي والشدة كافياً في العلاج ولو لم يُستعمل ذلك فعلاً .
???? ( يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَآذَانٍ صُمٍّ وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ ) :
فهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان مع أمته ، يعيش في وسطها ، لذلك كان يعرف جيداً مواطن الضعف فيها ، ونقاط قوتها ، ومتى تغفل ، واين تتحير ، وبأي شئ تتأثر ، وكيف تُعالج .
???? وعن أمير المؤمنين ايضاً أنّه قال :
( كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ ) .
[ نهج البلاغة ، من غريب كلامه المحتاج الى تفسير ، رقم ( 9 ) .
قال الشريف الرضي :
ومعنى ذلك : " أنّه إذا عَظُم الخوفُ من العدو واشتد عِضَاضُ الحربِ [ أصله عض الفرس ، مجاز عن إهلاكها للمتحاربين ] ،
فَزِعَ المسلمون إلى قتال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ، [ أي : لجأوا الى طلب رسول الله ليقاتل بنفسه ] ،
فيُنزِلُ الله تعالى النصر عليهم ، ويأمنون ما كانوا يخافونه بمكانه .
وقوله ( عليه السلام ) : ( إذَا احمّر البأس ) كناية عن اشتداد الامر ،
وقد قيل في ذلك أقوال أحسَنُها : أنه شبّه حَمْى الحرب بالنار التي تجمع الحرارة والحمرة بفعلِها ولونها ، وممّا يقوي ذلك قول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد رأى مُجْتَلَدَ [ الإجتلاد : أي شدة الإقتتال ]
الناس يوم حُنين وهي حرب هوازنَ : ( حَمِيَ الوَطِيسُ ) ، فالوطيسُ : مستوقَدُ النار ، فشبّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما استحرّ من جلاد القوم [ استحر : اشتد ، والجلاد : القتال ]
باحتدامِ النار وشدةِ التهابها " .
© Alhawza News Agency 2019