المقالات والبحوث

(حج العارفين ) ✍️ السيد فاضل الموسوي الجابري

(حج العارفين )  ✍️ السيد فاضل الموسوي الجابري
المصدر: واحة - وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الأشرف

(حج العارفين )

 

✍️ السيد فاضل الموسوي الجابري 

 

 

بسمه تعالى 

الحج ايام معدودات يقضيها الإنسان في رحاب تلك الديار المقدسة والمشاهد المباركة، التي تحمل دلالات تاريخية عميقة لها تأصل في عمق التأريخ وتحكي عن وقائع توحيدية خلدتها السماء لكي تكون إنموذجا يقتدى به ، ووظيفتها تربية الإنسان تربية الهية لأجل أن يحقق هدف وجوده في هذا العالم .

لكن الناس في تلك المواقف على أشكال مختلفة من استشعارهم لرمزية كل واحد من هذه الطقوس والمناسك، فكل إنسان له طريقة حركية خارجية او داخلية ترتبط بذلك الاستشعار ، حيث نجد بعضا يؤدي هذه المناسك بشكل ميكانيكي صِرف فتراه يتحرك بجسده محرماً وملبياً وطائفاً واسعياً ورامياً وذابحاً ومقصراً. يؤدي كل ذلك بلا روح وإنما عبارة عن جسد يتحرك ليس الا . فلا يندمج مع الحالة التي يعيشها ، ولا يستشعر دلالتها ورمزيتها، على الرغم من كونه قد أدى ما عليه من الناحية الفقهية واسقط التكليف عنه .

وفي المقابل هناك فئة أخرى يؤدون المناسك ولكن بقلوب وأرواح تنصهر مع المكان والزمان ، فتحقق بذلك صيرورة استشعار حب وعشق تأخذهم إلى عالم آخر غير هذا العالم، فتتنور قلوبهم وتصفى نفوسهم فينعكس ذلك على كل وجودهم ، فتتمظهر بمظاهر مختلفة كالايمان واليقين والخشوع والخضوع والبكاء من خشية الله ، ويأتي في طليعتها الحب له تعالى .

هنا يتحول الحج من مجرد عبادة ترتبط بالتكليف الإلهي إلى محطة مهمة في حياة ذلك الإنسان ، فتنشحن فيه روحه بطاقة إيمانية ومعرفية كبيرة جدا ، تؤثر في رؤيته الكونية المعرفية لله والحياة والانسان . وتساهم بشكل كبير جدا في بنائه الروحي والمعنوي والعقائدي ، فتضيئ له طريق الحركة الى الله تعالى ، لأنه سوف يكون من ذوي البصائر الذين يسيرون في طريق الوصول إلى الله بشكل واضح ليس فيه ريب او شك او شبهة .( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . 

ومن خواطر وذكريات الحج الذي وفقنا الله له في هذا العام هي انني انفردت يوما عن رفقائي لكي اقوم بأداء بعض الأعمال لوحدي ، وكنت أرمي بذلك الخلوة مع الله تعالى، وبعد ان أديت بعض تلك الأعمال قبل الظهر اكملت البقية بعد صلاة الظهر .

وسبحان الله لم يبق عندى سوى طواف النساء ، وكان الحرم غاصا بالحجاج الذين يريدون إكمال أعمال الحج ، ولكن تحت شمس عمودية على الرؤوس حارقة جدا ، والازدحام الحجاج بلغ أوجه في ذلك الوقت، فاختلطت الأنفاس وتزاحمت الأجساد إلى أقصى درجة ، وبدأ العرق يتصبب من تلك الأجساد كأنه المطر المنهمر .

في تلك الحالة المتعبة والخانقة وأثناء الطواف في البيت الشريف خرجت نفسي عن المكان وتجردت عن الزمان وما عدت استشعر شيئا من تلك المضايقات او الحرارة المرتفعة او ضيق النفس ، وإنما خلت انني اطوف لوحدي وكأن البيت خلي من اي احد غيري ، بل كأن الكعبة معلقة في السماء وانا اطوف حولها ، وما عدت اسمع أصوات ادعية الحجيج او اي أصوات أخرى. هناك كأنني اسبح في عالم الملكوت الذي يأخذ بالقلوب واستشعرت معية الله بكل وجودي، ونظرت إلى كرامة انوار ذلك العالم وجماله وبهائه ، اخذت عيوني تنهمر بكاء من دون اختيار ، واخذ قلبي يرتجف وروحي تكاد تطير مني ، في تلك الاثناء اخذت اناجي ربي من صميم أعماقي من دون صوت مسموع خجلا منه ، ولا رأس مرفوع حياء منه ، اعترفت له بذنوبي وتجاوز حدودي وتقصيري واسرافي في أمري. فكنت في أسوء حال خوفا وخجلا وحياء من الله سبحانه.

وفي تلك الاثناء غمرتني نفحة الهية ، وهب عليّ نسيم بارد ارجعت الي صحوتني بعد أن كاد عقلي يغادرني وروحي تفارقني . وبعدها أبصرت جمالا لا يمكن وصفه ، وشعرت بحب لا يمكن التعبير عنه . فنطق لسان قلبي بصمت العاشق من دون شعور قائلا :

افطم حبك قلبي عن كل حبٍ & 

واعمى جمالك عيني عن كل جمالِ 

كل ذلك المشهد الملكوتي لم يستغرق في ظرف عالم الملك الا دقائق معدودة ، رجعت فيه إلى الإحساس بجسدي ووعي ، واذا بي اسمع أصوات الحجاج يكبرون عند وصولهم إلى الحجر الأسود في الركن اليماني. 

 

 

النجف الاشرف

١٩ ذو الحجة ١٤٤٣هج

وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف - واحة
© Alhawza News Agency 2019

اخبار ذات صلة

تعلیقات الزوار