المقالات والبحوث

التفسيري الاجتهادي ومصادر استنباطه ✍️ الشيخ عماد مجوت

التفسيري الاجتهادي ومصادر استنباطه  ✍️ الشيخ عماد مجوت
المصدر: واحة - وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الأشرف

التفسيري الاجتهادي ومصادر استنباطه

 

♦️الحلقة الأولى 

 

   ربما من أكثر الموارد المحفوفة بالمخاطر استدلالا وتوجيها الاجتهاد في التفسير، ابتداءً من توجيه النهي الوارد عن التفسير بالرأي, مروراً بالفرق بين كشف المعنى التفسيري وبين استظهاره, وانتهاء عند مدارك الوقوف عليه سعة وضيفاً.

 

  ولعل تسليط الضوء على ثلاثة من أهم تفاسير الإمامية إعمالا للاجتهاد في التفسير _مع مراعاة أن الاجتهاد فيها لم يكن خارجاً عن التفسير الحجة إلى التفسير بالرأي بأي مرتبة من مراتبه_ من الأهمية بمكان، هي (الصافي، الميزان، الفرقان). 

   والتي مثلت تنوعاً في الأسلوب والمصادر والنتيج, وإن كانت في الأعم لا تختلف من ناحية الدخول تحت الأطر العامة للكليات الاعتقادية لما عليه أئمة أهل البيت(عليهم السلام).

 

تفسير الصافي 

 

    فإذا بدأنا بالأقدم زماناً أي الصافي لوجدنا أنه يختلف في طريقته ومنهجيته تماماً عن التفاسير السابقة عليه سواء كانت الروائية منها مثل العياشي والقمي أو اللغوية والناقلة للاقوال كالتبيان ومجمع البيان، حيث شكل علامة فارقة عنها جميعاً منهجاً ونتيجة.

 

منهجية الصافي

 

   فهو يبدأ بعرض الروايات المنقولة حول الآية المتعرض لها، ثم يذكر ما يحيط بها من أفكار كلامية و فلسفية بعبارة وجيزة ثم ينتهي إلى مختاره من مجموع ما استعرضه.

   فهو اجتهاد مبني على المنهج الروائي مع ملاحظة القرائن الحافة اتصالاً وانفصالا لينتهي إلى نتيجة مفادها مجموع ما لحظه في كشف النقاب عن الآية.

  فالمصدر الأساس له(رضوان الله عليه) هو الرواية لكن لا مجرد النقل لها كما في التفاسير القديمة مثل (العياشي والقمي) ولا التوسعة أيضاً مع النقل كما في التفاسير المتأخرة والمعاصرة له مثل (البرهان ونور الثقلين) والتي يجمعها عنوان الرواية الخالية من الدراية بل يجعل الدراية من مجموع الروايات المحيطة بالآية أداة لتفسير للآية، ففي الواقع هو يفسر الآية بدراية الرواية وهو معنى الاجتهاد التفسيري، والذي في واقعه محفوف بمخاطرة كبيرة من ناحية الوقوع في الرأي المنهي عنه، ولكنه جدير بالاهتمام من ناحية بث الحياة في التفسير القرآني وجعله يجري مجرى الليل والنهار كما في تعبير الرواية بخلاف الاقتصار على نقل الرواية.

 

مثال تطبيقي لمنهجيته 

 

  ولعل بيان ذلك بالمثال أجلى لبيان حقيقته وتصورها من مجرد السرد الانشائي، ومثاله ما في قوله تعالى:﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ استَوى عَلَى العَرشِ ..﴾ [الأعراف: ٥٤] . حيث ذكر أولا الروايات المنقولة حول الآية فقال :﴿ثم استوى على العرش: في الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السلام استوى تدبيره وعلا أمره.

وعن الكاظم عليه السلام: استولى على ما دق وجل. وفي الكافي: عن الصادق عليه السلام: استوى على كل شئ فليس شئ أقرب إليه من شئ، وفي رواية أخرى استوى من كل شئ فليس شئ أقرب إليه من شيء.

وفي أخرى استوى في كل شئ فليس أقرب إليه من شئ لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب استوى في كل شي﴾. ثم ذكر معاني العرش الجسماني المحيط بالعالم، فقال :﴿أقول: قد يراد بالعرش الجسم المحيط بجميع الأجسام، وقد يراد به ذلك الجسم مع جميع ما فيه من الأجسام أعني العالم الجسماني بتمامه، وقد يراد به ذلك المجموع مع جميع ما يتوسط بينه وبين الله سبحانه من الأرواح التي لا تتقوم الأجسام إلا بها أعني العوالم كلها بملكها وملكوتها وجبروتها.

وبالجملة ما سوى الله عز وجل﴾.

 

   ثم ذكر معناه المؤول بالعلم، فقال:﴿وقد يراد به علم الله سبحانه المتعلق بما سواه، وقد يراد به علم الله سبحانه الذي اطلع عليه أنبياءه ورسله وحججه وقد وقعت الإشارة إلى كل منها في كلامهم﴾

 وجميعها ذكر أنها واردة في كلمات الأئمة (عليهم السلام)، ثم ذكر المعنى المستفاد مرتبا عليه الدلالات التضمنية والالتزامية التي لا بد أن تلحظ في التفسير، فقال: ﴿أقول: فسر الصادق عليه السلام الاستواء في روايات الكافي: باستواء النسبة والعرش بمجموع الأشياء وضمن الاستواء في الرواية الأولى ما يتعدى بعلى كالاستيلاء والأشراف ونحوهما لموافقة القرآن فيصير المعنى استوى نسبته إلى كل شئ حال كونه مستوليا على الكل ففي الآية دلالة على نفي المكان عنه سبحانه خلاف ما يفهمه الجمهور منها، وفيها أيضا إشارة إلى معيته القيومية واتصاله المعنوي بكل شئ على السواء على الوجه الذي لا ينافي أحديته وقدس جلاله وإلى إفاضة الرحمة العامة على الجميع على نسبة واحدة وإحاطة علمه بالكل بنحو واحد وقربه من كل شئ على نهج سواء وأتى بلفظة (من) في الرواية الثانية تحقيقا لمعنى الاستواء في القرب والبعد وبلفظة في الثالثة تحقيقا لمعنى ما يستوي فيه، وأما اختلاف المقربين كالأنبياء والأولياء مع المبعدين كالشياطين والكفار في القرب والبعد فليس ذلك من قبله سبحانه بل من جهة تفاوت أرواحهم في ذواتها﴾.تفسير الصافي ج٢ ص٢٠٤_٢٠٥.

فكان ما انتهى إليه هو مجموع الدراية الذي فسر به الآية.

الخلاصة والنتائج

 

من خلال ما تقدم يمكن أن نستخلص من منهجية تفسير الصافي وطريقته جملة أمور : 

 

١_ أن مصدره الأساس هو الرواية دون اللغة أو الآية، وهو بهذا يصنف ضمن التفسير الروائي بهذا المقدار 

 

٢_ أنه يتميز عن غيره من التفاسير الروائية بزيارة الدراية عليها وجعلها أداة التفسير، دون نفس الرواية ، فهو مرجعاً تفسير روائي ، ومنهجا اجتهادي.

 

٣_ إضافة القرائن الحافة بالرواية لتكون مدخلاً في بيان تفاصيل الآية كما في الحروف أو السياق الروائي وكذلك اللوازم العقلية مثل نفي المكان عن طبيعة الاستواء، وهي بهذا تثري الناتج الدرائي المساهم في التفسير.

 

٤_ بلورة حياة الآية المتعرض لها لجعلها منطبقة المفاد على مواردها المختلفة اعتقاداً وسلوكاً، لتكون جارية مجرى الليل والنهار.

 

٥_ بملاحظة النقطتين أولا وثانيا يكون خارجاً عن محذور التفسير بالرأي، وهو قدر كبير نسبياً إذا استثنينا مبنى السيد العلامة الطبطبائي (رضوان الله عليه) الذي خصص الخروج منه بتفسير القرآن بالقرآن.

 

٦_ ربما بملاحظة النقطة الثالثة يتاح المجال لمحذور التفسير بالرأي؛ فيما إذا قيل بأن النتيجة التي بنى عليها التفسير هي الدراية من خلال الرواية وهذا بوجه وآخر اعتماد على ما يراه لا ما تراه الرواية، وهو محذور يحتاج إلى ألتفات كبير منه إلى عدم إدخال شيء زائد على الرواية للخروج عن ذلك المحذور .

 

 نعم يبقى بين إيجابيات هذا المنهج وخطورته أنه يمثل نقلة نوعية عن التفاسير السابقة عليه وفاتحا لباب التفسير الاجتهادي بهذا الشكل.

وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف - واحة
© Alhawza News Agency 2019

اخبار ذات صلة

تعلیقات الزوار