المقالات والبحوث

أقسام المعرفة، بقلم السيّد عادل العلوي

 أقسام المعرفة، بقلم السيّد عادل العلوي
المصدر: واحة_ وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الأشرف


أقسام المعرفة، بقلم السيّد عادل العلوي

لا ريب كما ورد في القرآن الكريم والسنةالمطهرة والأحاديث الشريفة أنّ عظمة الإنسان وفضله وسمّوه ورفعته إنما هو بعلمه ومعرفته فقيمة كل إنسان ما يُحسنه ويعرفه،وإن أفضلكم يوم القيامة أفضلكم معرفةً، ولا قيمة للعلم والمعرفة لولا العمل الصالح، وقيمة العمل الصالح بالإخلاص، وبالإخلاص يكون الخَلاص كما يكون النيل والقرب والوصول من العلي الأعلى، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح وهو المخلص يرفعه.

قال الإمام الصادق علیه السلام: لا يقبل الله عملاً إلّا بمعرفةٍ، ولا معرفة إلّا بعملٍ، فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له[1]، فهناك إرتباط وثيق بين المعرفة والعمل وأحدهما يدل على الآخر من باب دلالة العلم الإجمالي على التفصيل وبالعكس كالعام والخاص .

وفي الحديث الشريف النّاس كلُهم هلكى ، إلّا العلماءء، والعلماء كلّهم هلكى، إلّا العاملون، والعاملون كلّهم هلكى، إلّا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم.

وهو خطر الرياء، فإنّه كدبيبة النملة سوداء على الصخرة صلماء في الليلة ظلماء، فمن يحسّ بدبيب ومشي تلك النّملة؟! وما أبرء نفسي الأمارة بالسوء إلّا ما رحم ربّي، وإنّ الشيطان عدو الإنسان لبالمرصاد فقسم منذ اليوم الأول بعزّة الله ليغوينّ بني آدم أجمعين، إلّا عباد الله المخلصين الذين أخلصهم الله لنفسه وللدّار الآخرة.

وقال أمير المؤمنين علي علیه السلام لكميل صاحب سرّه: يا كميل ما من حركة إلّا وأنت محتاج فيها إلى معرفة[2].

فمعرفة الله ورسوله وإمام زمانك واجبة على كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة، فمن لم يعرف الله ولم يعرف الرّسول، ولم يعرف إمام زمانه ومات، مات ميتة الجاهلية ميتة كفر ونفاق وضلال، وكان عاقبته العذاب والنار.

(اللّهم عرفني نفسك فإنّك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيّك، اللهم عرفني رسولك، فإنّك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حُجتك اللّهم عرفني حُجتك، فإنّك إن لم تعرفني حجتك ضللتُ عن ديني اللّهم لا تمتني ميتة الجاهلية)[3].

أقسام المعرفة وأنواعها:
ثُمَّ إن كانت المعرفة بمنزلة الجنس، ولكل جنس أنواع، كما للنوع أصناف، وللصنف أفراد ومصاديق، فأشار العلماء الأعلام إلى جملة من أنواع المعرفة وأقسامها، ومن خلالها ستقف على مستويات المعارف عند الناس ومستوى العلماء، وإختلاف الطرق في منهجية المعرفة ونوعها، ومن خلال كلّ نوع يستطيع العارف معرفة التوحيد والنبوة والإمامة، بل أي حقيقة من الحقائق، وأي شيء من الأشياء، كما أنّه من خلال متعلّقات المعرفة تنقسم المعارف وتتنوع إلى أنواع وأقسام.

ولما كان الحديث في معرفة الإمام والإمامة في ضوء الدّين الإسلامي ومذهب أهل البيت علیهم السلام، كما لو أردت أن تعرف سيد الشهداء الإمام الحسين علیه السلام، فإنّك تستطيع أن تعرفه علیه السلام ونعرفه على قدر قابليتنا كمّاً وكيفاً، وساحة إستعداتنا وخلفيّاتنا العلمية والثقافية بالطرق المعرفتية التالية:

1 ـ المعرفة العقلية: وتكون بالإستدلال العلمي والبرهان المنطقي العقلي من القياسات وترتّيب المقدمات من الصغريات والكبرويّات والنتائج السليمة، بحسب الشرائط المذكورة في علم المنطق والفلسفة.

2 ـ المعرفة الشّهودية الكشفية العرفانية: وهي بالقلب النّقي التّقي الزكّي كالمرآة الصافية وتكون بالمكاشفات القلبية الرحمانية الصادقة.

3 ـ المعرفة الفطرية: وتكون بالأمور والقضايا المجعولة في أصل الخلقة الإنسانية وفطرة الإنسان الذي يعبّر عنها في الأحاديث بالباطن الإنساني، وقد إختلف الأعلام في معنى وتفسير الفطرة، ولا سيّما في قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾[4]. والدليل الفطرة من الأدلة المعصومة كالدليل العقلي والقرآن الكريم والخبر الصحيح، وقيل في معناه: العهد المأخوذ في عالم الذّر على القول به وقيل: الحقيقة التي خلق الله تعالى الناس عليها وهي قبولهم الحق والتوحيد والرسالة الإمامية لو خلى الإنسان مع نفسه من دون تأثير المحيط عليه وقيل: معناها: كل مولود يولد على معرفة الله وعشق الكمال المطلق والجمال والخير، ورد عن أهل البيت علیهم السلام الفطرة: بمعنى الحنفيّة في قوله تعالى:﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ﴾، وبمعنى الولاية وأنها لا إله إلّا الله محمد رسول الله صلی الله علیه وآله وسلم علي أمير المؤمنين علیه السلام والتوحيد والإسلام والمعرفة وغيرها، كما في علم المنطق في مواد أقيسة البرهان.

في الشكل الأول ومادته من الأوليات ومنها: النظريات، ولا ريب أنّ المعارف الإلهية وأسرار التوحيد والنبوة والإمامة مكنونة ومخزونة في فطرة الناس منذ آدم وإلى يوم القيامة كما هو ثابت في محلّه ومعلوم عند أهله.

4 ـ المعرفة النّقلية: ويكون بالأدلة النقلية في الكتاب الكريم والسّنة المطهرة ومنها  الأئمة المعصومين علیهم السلام أي بما ورد في الأخبار الصحيحة والمعتبرة عن الرسول الأعظم محمد صلی الله علیه وآله وسلم، وأهل بيته الطاهرين علیهم السل

ام والمختار في أخذ الأخبار بصورة عامة أنّه في الأحكام الشرعية والتكليفية إنما نأخذ بخبر الثقة من حيث السند وفي غيرها من العقائد والأخلاق فإنما نأخذ بخبر الموثوق منها، ودلالةً من حيث إثباتها في العقائد بالبراهين العقليّة، وفي الأخلاق بالأدلة الفطرية، والله العاصم والمستعان، وترجع هذه المعرفة إلى جذور ثلاثة مفطورة على عشق الكمال المطلق أي تتجه إلى الله سبحانه وهي حب الكمال وحب الجمال وحب الخير.

5 ـ المعرفة التاريخية: ويُقصد منها أن تكون من خلال مراجعة كتب التاريخ والمؤرخين بعد التمحيص والتحليل العلمي التاريخي، وإخراج الغث من السمين.

6 ـ المعرفة الجمالية: ويقصد منها معرفة الشيء من جوهره وبواطنه.

7 ـ المعرفة الكمالية: وتكون بالوقوف على معرفة العلل الأربعة في كل معلول من العلة الفاعلية والصورية والمادية والغائية، فتقف على غاية الشيء وكماله والمقصود من وجوده وإيجاده.

8 ـ المعرفة النورانية: وهي تعني أن تعرف الإمام علیه السلام مثلاً من خلال الوقوف والإطلاع على الخلقة النورانية له وكيف أنّ الله سبحانه نور السموات والأرض يتجلّى نوره في خلقته النوريّة كما قال أمير المؤمنين لسلمان المحمدي وأبي ذر رضوان الله عليهما (اعرفونا بالنورانية...).


9ـ المعرفة المناقبيّة: وتكون من خلال معرفة فضائل ومناقب وكرامات ومعاجز النبيّ أو الإمام علیهم السلام والولي الصالح أو الولية الصالحة.

10 ـ المعرفة العلمية والنكرية: وتكون من خلال قراءة سيرة الإمام علیه السلام والقضايا العلمية التي تكلّموا بها.

11 ـ المعرفة الحسيّة: وهي أدنى المعارف ومنشأها الحواس الخمس الظاهرية، يؤمن بها الأغلب من الناس فهذه هي أقسام المعرفة العامة، وتعدّ بمنزلة أُمهات المعارف، ومنها تتشعب وتتفرّع المعارف الأخرى وإنطباقها وجريانها على مصاديقها على إختلافها في الأحوال وفي الأزمنة والأمكنة.

ثم لا يخفى أنّ لكل إنسان في خلقته الأولى، جانبين وبُعدين: أحدهما: العنصر والبُعد المادّي المتحقق في الجسم الإنساني الذي يأخذ حيزاً في الوجود، كأيّ جسم آخر ذات الأبعاد الثلاثة: الطول والعَرض والعمق، ويتكّون من الجوارح الظاهرة ومحلّاً للحواس الخمسة أي الباصرة والسّامعة والشّامةوالذائقة واللّامسة.

وثانيها: العنصر والبعد الرّوحي المعنوي، وفيه الفطرة والعقل والنّفس والجوانح الباطنية، ويكون محلّاً للعلوم النظرية والمعارف والثقافات المتنوعة والعامة، ومرآتها النفس الإنسانية الناطقة.

فالوجود الإنساني ذو وجهين: وجه ظاهري محسوس والآخر خفي باطني معقول، ويكون مستقراً للعلوم والمعارف الإلهية، وبه يمتاز الإنسان عن الجمادات والنباتات والحيوانات.

وقد أشار القرآن الكريم في سوره وآياته الكريمة إلى هذين البعدين والوجهين، كالعلة الواحدة ذي الوجهين في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ﴾ وهو كالعملة الواحدة ﴿مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً﴾، وهذا هو الوجه الظاهري والعنصر الجسمي الأرضي للإنسان ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ﴾ إذ نفخ فيه من روحه ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ وهو ملك أعظم من جبرئيل نُسب إلى الله تشريفاً ليدلّ على عظمة مقامه كأي شيء ينسب إليه كرسوله الأعظم وحبيبه الأكرم محمد صلی الله علیه واله وسلم (أشهد أنّ محمداً عبده ورسوله) وكالقرآن الكريم كتابه المقدس وغيرهما، وبالرّوح العظيمة التي نزلت من العليا قوسها النزولي لتكون من الجسم الإنساني، ثم تعرج مرة أخرى في قوسها الصعودي لتكون من العلّيين المقرّبين في مقصد صدق عند مليك مقتدر، فإنا لله وإنا إليه راجعون ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين[5]. في خلق مثل هذا الإنسان العظيم.

فموضع ومحل كلّ أنواع المعارف في الإنسان ليس باعتبار جسمه الحيواني الذي يرجع إلى أصله الترابي في وفاته وموته، بل باعتبار روحه وعقله وقلبه وفطرته وسريرته الخفية، وباطنه الغيبي الذي عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾[6]. أي من ﴿لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ومن العدم إلى الوجود فهو من عالم الأمر ولله الخلق والأمر.

وأمّا المعارف الإلهية الحقّة لا تكون في باطن أي إمرء من الرجال والنساء كان، بل في روح وباطن وقلب المؤمن الذي هو حرم الله وعرش رحمانيّته، ومن ثم تقرء في حديث رسول الله صلی الله علیه واله في معرفة سبطه سيد الشهداء الإمام الحسين علیه السلام (إنّ للحسين في بواطن المؤمنين معرفة مكتومة) وهي من سر السّر كتمت عن الأغيار، وحجبت عن الفّجار، وإن كانت في فطرة الناس جميعاً ثابتة ومعزوزة كالتوحيد إلّا أنّ أكثر لناس لا يعلمون قد كفروا بنعمة الله.

وإنّما اختصت المعارف بالبواطن دون الظواهر الذي هو الملاك في حكم الناس على ظواهرهم شرعاً وقانونا

ً، لأنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأقوالكم، وإنّما ينظر إلى قلوبكم وبواطنكم.

فإنّما يُحكم على الظاهر في القضايا العرفية والشرعية في الدنيا باعتبار ظاهر الناس بقاء والنظام الإجتماعي وسلامته، فإنّ الله يظهر الجميل ويستر القبيح لبقاء النظام وسلامته ولتمشية الأمور، ولكن بالنسبة إلى الآخرة ويوم تُبلى السرائر والبواطن، فإنّما يحكم بما في القلوب وفي البواطن، ومن ثمّ كانت الأعمال بالنيّات، وكان الخلوة في الجنة والنار بالثوابت كما ورد في صحيح الأخبار والآثار عن الرسول المختارصلی الله علیه وآله وأهل بيته الأطهارعلیهم السلام.

فطوبى لمن أصلح باطنه وسريرته، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته وظاهره، كما من أصلح بينه وبين الله أصلح الله بينه وبين الناس، ومن أصلح آخرته أصلح الله دنياه.

والبواطن والقلوب هي محلّ بروز وظهور المعارف والأسرار المكتومة، يقف عليه من كان من أهل المعرفة والكشف والذّوق الشهودي بعلم إلهامي ونور من الله سبحانه يقذفه في قلب المؤمن، ومن شاء أن يهديه سواء السبيل والصراط المستقيم وأمّا في خصوص المعرفة الحسينية المكتومة في بواطن المؤمنين، إنّما تتجلّى خاصاً فيما خصّ الله سيد الشهداء علیه السلام بالخصائص والكرامات الحسينية، كإستجابة الدعاء تحت قبّته، والشفاء في تربته، والإمامة في ولده، وتاسعهم قائمهم الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً [7].

ثمّ الباطن هو عين الحقيقة في الإيمان أو الكفر والنفاق، والظاهر هو كالجسر إلى الباطن، كما هو كذلك في العكس، ليدلّ على شدّة العلقة والإرتباط الوثيق بين الظاهر والباطن وبالعكس، فإذا كان الباطن في المعارف الحقة هو الحقيقة، فإنّ الظاهر سيكون الشريعة، كما أنّ الرابط بينهما ستكون الطريقة، فلابدّ للسالك إلى الله سبحانه في طي منازل السائرين ورحلته الأبدية من التمسك بالشريعة والطريقة الحقيقية، ألا أنّه لا على ما يذهب إليه المتصوفة المبتدعة والضّالة المضلّة، بل ما كان على ضوء القرآن والعترة علیهم السلام.

فالباطن: حقّ اليقين، وهي الحقيقة، والظاهر: علم اليقين وهو الشريعة، والرّابط: عين اليقين وهي الطريقة، هذا ما أذهب إليه في الجملة.

ومن كل يقين سيكون ينابيع وعيون الحكمة والأسرار الشهودية والغيبية جارٍ في قلوب المؤمنين العارفين، ولا يلّقاها إلّا ذو حظ عظيم، رزقنا الله وإياكم ذلك الفوز العظيم والمقام الكريم، آمين يا ربّ العالمين.


[1] الكافي: 1: 44.

[2] ميزان الحكمة: الحديث رقم: 7421.

[3] مفاتيح الجنان: دعاء الغيبة، والكافي: 1: 337.

[4] الروم: 30.

[5] المؤمنون: 14.

[6] الإسراء: 85.

[7] لقد ذكرت جملة من الخصائص والكرامات الحسينية في كتاب (الأضواء لشرح وتفسير زيارة عاشوراء) المجلد الأول وهو على الموقع (علوي نت) فراجع.

وكالة انباء الحوزة العلمية في النجف الاشرف - واحة
© Alhawza News Agency 2019

اخبار ذات صلة

تعلیقات الزوار